الدستور أولاً.. الجدل الدائر حاليا بين الأحزاب والقوي والتيارات السياسية، وبشكل غير مباشر مع المجلس الأعلي للقوات المسلحة والحكومة، حول الدستور الجديد وهل يصدر قبل انتخابات مجلسي الشعب و«الشوري» ورئاسة الجمهورية، أم يتم الالتزام بالإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الأعلي للقوات المسلحة في 3 مارس 2011 متضمنا المواد التي تم الاستفتاء علي تعديلها في 19 مارس والتي تنص علي بدء إجراءات انتخابات مجلسي الشعب والشوري خلال ستة أشهر من تاريخ العمل بالإعلان الدستوري (مادة 42 من الإعلان)، وأن يجتمع الأعضاء غير المعينين لأول مجلسي شعب وشوري في اجتماع مشترك بدعوة من المجلس الأعلي للقوات المسلحة خلال ستة أشهر من انتخابهم لانتخاب جمعية تأسيسية من 100 عضو تتولي إعداد مشروع دستور جديد للبلاد في موعد غايته ستة أشهر من تاريخ تشكيلها ويعرض المشروع خلال خمسة عشر يوما من إعداده علي الشعب لاستفتائه في شأنه (مادة 60 من الإعلان الدستوري).. هذا الجدل والخلاف بشأن هذا الموضوع لا يمكن اعتباره جدلا بيزنطيا أو مجرد سفسطة مثقفين، بل علي العكس من ذلك تماما فهو جدل يتعلق بمستقبل الوطن وإمكانية انتقال مصر من نظام حكم فردي استبدادي إلي نظام ديمقراطي حقيقي. فالدستور - أي دستور - «هو الإطار العام للشرعية والمشروعية، وهو أساس سيادة القانون والدولة القانونية.. وموضوع الحقوق والحريات العامة هو محور وصلب الوثيقة الدستورية» كما يقول د. إبراهيم درويش أستاذ القانون الدستوري، وهو الذي يحدد العلاقة بين السلطات الثلاث - السلطة التشريعية «البرلمان» والسلطة التنفيذية «رئيس الجمهورية والحكومة والإدارة المحلية» والسلطة القضائية وشكل الدولة وهويتها. وفي الوقت الحاضر يكاد يكون هناك إجماع بين الأحزاب والقوي السياسية ومنظمات المجتمع المدني والحركات والائتلافات السياسية والشبابية علي «الدستور أولا»، فأحزاب التجمع والوفد والجبهة والناصري والغد والتحالف الشعبي الاشتراكي والعدل والمصري الديمقراطي الاجتماعي والمصريين الأحرار ومصر الحرة والاشتراكي المصري والوعي الحر والشيوعي المصري أعلنت بوضوح ضرورة أن يتم وضع الدستور الجديد وإقراره من خلال جمعية تأسيسية منتخبة قبل إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، والموقف نفسه وأكثر تتخذه الجمعية الوطنية للتغيير والمنظمة المصرية لحقوق الإنسان ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان والمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة الشعبية ودار الخدمات النقابية والعمالية ومؤسسة المرأة الجديدة، كما أوصي مؤتمر الوفاق القومي بضرورة أن يتقدم إصدار الدستور الجديد علي أي انتخابات عامة. ويقف علي الضفة المقابلة تيار الإسلام السياسي الذي يضم جماعة الإخوان المسلمين «حزب الحرية والعدالة» والسلفيين «حزب النور» وحزب الوسط. وتستند الدعوة لصياغة وإصدار الدستور أولا إلي مجموعة من الأسباب المنطقية. فالدستور هو الذي سيحدد شكل الدولة وطبيعة نظام الحكم.. جمهورية برلمانية أم جمهورية رئاسية أم جمهورية برلمانية مع قدر من السلطات لرئيس الجمهورية في السياسة الخارجية وقضايا الأمن القومي. والدستور هو الذي يحدد هوية المجتمع ويجسد المطالبة بمدنية الدولة وديمقراطيتها وحداثتها وضمان حقوق المواطنة والمساواة بين المواطنين، ويجيب عن التساؤل عن نسبة ال 50% للعمال والفلاحين وهل تبقي أم أنها لم تعد غير ذات موضوع، وكذلك تحديد نسبة من مقاعد مجلس الشعب للمرأة «الكوتة» من عدمه. والدستور الجديد سيحسم الجدل الدائر حول بقاء مجلس الشوري أم إلغائه، وطبيعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي يتم ضمانها بالدستور. وهناك خطر أن يتم انتخاب رئيس الجمهورية الجديد - طبقا للإعلان الدستوري - قبل إصدار الدستور الجديد، فالسلطات الواردة في الدستور تكاد تتطابق مع السلطات المطلقة لرئيس الجمهورية في دستور 1971، وبالتالي ستفرض علي البلاد ديكتاتورا جديدا علي شاكلتي مبارك والسادات. والإسراع بانتخاب مجلسي الشعب والشوري قبل نهاية سبتمبر القادم - أي خلال ثلاثة أشهر - والأحزاب الجديدة مازالت تحت التأسيس ولم تبدأ بعد خطوتها الأولي في العمل السياسي، ولم تتح لها فرصة زمنية مناسبة ليتعرف الناخبون عليها، والأحزاب الرئيسية القائمة قبل (25 يناير) والتي أسقط الحصار المفروض عليها منذ أقل من أربعة أشهر وبالتالي لم يتحقق التواصل بينها وبين الجماهير.. سيؤدي إلي إعادة إنتاج مجلس شعب 2010 الذي حلته الثورة بنفس الوجوه تقريبا من بقايا الحزب الوطني ورجال الأعمال الفاسدين، مضافا إليهم تيار الإسلام السياسي «الإخوان والسلفيين» الذين يملكون المال واستغلال المشاعر الدينية والتنظيم، خاصة والحوار حول قانون جديد لانتخابات مجلس الشعب، وهل يكون بنظام المقاعد الفردية أم بالقائمة النسبية غير المشروطة أو نظام مختلط بين القائمة والفردي، لم يبدأ بعد. كما أن إعطاء مجلسي الشعب والشوري المفترض انتخابماه خلال ثلاثة أشهر سلطة انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد، يعني أن الحزب الفائز بالأغلبية في هذه الانتخابات أو التحالف الحزبي الذي سيشكل الأغلبية داخل مجلسي الشعب والشوري هو الذي سيختار أعضاء الجمعية التأسيسية وبالتالي صياغة الدستور طبقا لرؤيته ومصالحه، وهو أمر لا يستقيم ولا يحقق الاستقرار والدوام، فالمفترض أن يكون الدستور نتيجة توافق مجتمعي بين الأحزاب والقوي السياسية والطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة، وليس تعبيرا عن أغلبية علي حساب الأقلية في لحظة محددة. والتحجج بأن الاستفتاء علي تعديل مواد في دستور 1971 شمل إضافة مادة تحت رقم 189 تنص علي تشكيل جمعية تأسيسية لصياغة دستور جديد بعد انتخاب مجلسي الشعب والشوري، وجري تضمينها في الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس، وبالتالي أصبح الأمر ملزما للمجلس الأعلي للقوات المسلحة ولا يمكن تغييره، مردود عليه - وبصرف النظر عن أي جدل فقهي حول شرعية أو ديمقراطية الاستفتاء علي دستور تم إعدامه بقيام الثورة وتولي المجلس الأعلي للقوات المسلحة السلطتين التشريعية والتنفيذية - بأن المجلس الأعلي يملك أمام إجماع الرأي العام علي ضرورة إصدار الدستور أولا، إدخال تعديل علي مواد الإعلان الدستوري وطرحها للاستفتاء من جديد. لقد أصبحت صياغة وإصدار «الدستور أولا» هي الخطوة الأولي المطلوبة من الرأي العام للتحول إلي دولة المواطنة المدنية الديمقراطية الحديثة.