استفحلت أزمة النظام السياسي في سورية، ووصلت إلي العنف وإسالة الدماء، وأكدت هذه الأزمة وجود خلل في بنية النظام السياسي وفجوة هائلة بينه وبين الشعب، وضعف الثقة وانعدامها في بعض الحالات والأحيان، وإصرار من النظام علي استئثاره بالسلطة، وتجاهل شرائح الشعب المختلفة السياسية والاقتصادية والثقافية وخاصة أحزاب المعارضة السورية، وقادة الحراك الاجتماعي، وزعماء التظاهرات من الشباب، ومحاولته الدؤوب الإفلات من الإصلاحات وتجاهله معطيات عصرنا وأيامنا، وخاصة تلك المتعلقة بمفاهيم الدولة الحديثة كمرجعية المواطنة واحترام الحريات وخاصة السياسية منها، والعمل بالمساواة وتكافؤ الفرص والعدل وتطبيق الديموقراطية، وتأكيد تعددية النظام السياسي وتمثيليته وتداول السلطة، فضلاً عن فصل السلطات وغيرها، ورغبته الواضحة في إبقاء النظام كما كان منذ أن ولد في الثلث الأخير من القرن الماضي، نظاماً أحادياً شمولياً يقود فيه حزب البعث الدولة والمجتمع، سواء رغب الشعب السوري أم لم يرغب. ووصلت الأزمة إلي درجة خطيرة، تكاد تعبر عن نفسها بمواجهة أو مواجهات يومية عنفية وصريحة بين السلطة من جهة والمتظاهرين والمحتجين في الشوارع من جهة أخري، وضاق هامش الحلول الحوارية حتي كاد أن ينعدم، ووصل الحال إلي طريق مسدودة أمام النظام وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وأحزاب المعارضة وربما لم يعد حتي الحوار بين هذه الأطراف مجدياً، بعد أن أصبح (الشارع) وقادته من الشباب هو الطرف الأقوي والمواجه الحقيقي للسلطة وعنفها ومحاولات القمع التي تقوم بها، وبعد أن تصاعدت مطالب انتفاضة الشارع من (إصلاح النظام) إلي (إسقاط النظام) وربما أصبح مستقبل سورية كلها غامضا ومعرضا للمخاطر وفي طيات المجهول. كان بإمكان النظام السياسي السوري أن يجري إصلاحات بمبادرة منه قبل انفجار الأحداث ويقبلها الناس، وربما كانوا سيسعدون بها لكنه لم يفعل، وبعد بدء المظاهرات والاحتجاجات كان بإمكانه أيضاً أن يقرر إصلاحات في لقاء حواري مع أحزاب المعارضة ويعتبرها الناس كافية لكنه لم يفعل أيضاً، ورفض رفضاً مطلقاً إجراء أي إصلاح بل واعتبر أن الاحتجاجات والمظاهرات هي نتيجة وجود مندسين ثم قال بوجود سلفيين، وأخيراً تبني وجود مؤامرة، ومازال يتبني هذه الفرضية حتي الآن، ومادام الحراك كله هو نتيجة مؤامرة كما يري أهل النظام فهناك طريق واحدة لمواجهتها وهي طريق العنف والقضاء عليها بالقوة، ورفض الحوار مع المتآمرين.. إلي آخر هذه الاصطلاحات وتطوراتها وتدرج الموقف منها، وهذا ما فعله النظام ومازال يقابل المظاهرات بالعنف، ليس فقط العنف الذي تستخدمه أجهزة الأمن عادة، بل توريط الجيش السوري في لعبة العنف، وتحويله طرفاً في النزاع الداخلي، وما سيتبع ذلك من مخاطر نتيجة هذا الانزلاق. وفي الحالات كلها يرفض النظام حتي الآن الاعتراف بوجود أزمة داخل النظام، ويري أن الأمر هو تمرد هنا وهناك، وراءه المتآمرون أو الخارج، وعلي ذلك فليس للحل السياسي نصيب في برامجه. طريق الكوارث تعتقد أحزاب المعارضة السورية من طرفها، أن الوسائل التي يتبعها النظام سوف تؤدي إلي كوارث، وتري أن الحل يكون بعقد مؤتمر حوار بين السلطة وحلفائها من جهة وبين أحزاب المعارضة من جهة أخري، يمهد له بإيقاف الحل الأمني وسحب القوات المسلحة من الشوارع، وإخراج المعتقلين والمساجين السياسيين، وبحث الأزمة من كل جوانبها الدستورية والتشريعية والسياسية والإعلامية وغيرها، انطلاقاً من اعتراف النظام بضرورة أن يتحول إلي نظام تعددي ديموقراطي تمثيلي تداولي، مروراً بإحداث التعديلات الدستورية والتشريعية والقانونية اللازمة، وخاصة إلغاء المادة الثامنة من الدستور القاضية بقيادة حزب البعث للدولة والمجتمع، وإصدار قوانين الأحزاب والإعلام وغيرها، إلا أن اقتراحات أحزاب المعارضة هذه لم تجد أي استجابة من النظام، الذي حاول التهرب من أي التزام، فقال في البدء أنه شكل لجنة حوار رباعية، ثم استعاض عنها فأقر الحوار مع متنفذين ووجهاء في المحافظات، ثم اقتنع بعدم جدوي هذا كله، فشكل لجنة للحوار تضم ممثلين لحزب البعث وحلفائه من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وأشخاص مستقلين، ومازال يرفض حتي الآن واقعياً عقد أي حوار شامل جدي مسئول مع أحزاب المعارضة ومع القوي الحية في المجتمع السوري. هيئة الحوار لم يأخذ أحد في سورية مبادرة الحوار الأخيرة التي طرحها النظام مأخذ الجد، ورغم أنه سمي اللجنة (هيئة الحوار) وهي في الواقع لجنة من أشخاص فقط، فلم يكلفها بأي شيء محسوس، فلم يقل لافي قرار تشكيلها ولا في وسائل الإعلام بأن مهمتها مثلاً عقد مؤتمر حوار، أو مؤتمر وطني أو أي شيء مماثل، وكل مافي الأمر أنه أعلن تكليفها بالاتصال مع أفراد (وليس أحزابا أوكتلا) وإبداء الملاحظات علي ما تعرضه عليها السلطة من مشاريع قرارات، أي أنها في الواقع لجنة (سكرتاريا) لدي أصحاب القرار أو مساعديهم لا أكثر ولا أقل، خاصة أن النظام شكل لجنة لإعداد مشروع قانون الإعلام وأخري لإعداد مشروع قانون الأحزاب وثالثة لمكافحة الفساد، وكلها خارج إطار لجنة الحوار هذه التي شكلها مؤخراً إضافة إلي رفض الأمين القطري المساعد تعديل المادة الثامنة من الدستور، فماذا بقي للجنة إذن والحالة هذه وماذا ستعد أو تقترح؟. إن السياسة المركزية الثابتة للنظام، والتي لا يستغني عنها هي، انه لا يحاور إلا أفراداً، ويرفض أي حوار مع أحزاب أو تجمعات أو تنظيمات، لأنه مازال يعتبر أن الخلل موجود في بعض الجوانب من نشاط النظام والسلطة يمكن إصلاحه وينتهي الأمر علي ألا يطاول قضايا أساسية ذات علاقة ببنية النظام ومهماته وهيكليته والفجوات القائمة بينه وبين المجتمع أو شرائح من هذا المجتمع. في الوقت ذاته تتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية في سورية يوماً وراء يوم، وإذا بقي الحال علي ما هو عليه فمن البديهي القول أن سورية تسير في نفق مظلم لانهاية له، والخشية أن يستطيب النظام الحل الأمني أكثر فأكثر ويصبح الوهم هو المحرك الأكثر فعالية لسلوكه، والأكثر تأثيراً في قراراته.