ما من مصري يلتقي مصريا آخر إلا وتنطلق من فمه «إحنا رايحين علي فين؟» وإن لم ينطق فإن عينيه تطلقان ذات السؤال وبذات التوتر، ولأن هذا السؤال قد أحاط بي من كل جانب وكل مكان فوجب البحث عن إجابة أو حتي بعض إجابة وابتداء أعتقد أننا نتفق علي أن الضفاف المصرية تستقر عليها ثلاث قوي هي: الحكم وتحتوي أكثره إرادة المجلس العسكري وما تبقي يكون من نصيب حكومة شديدة الضعف واضحة العجز فلا هي أقرت أمنا ولا حلت مشكلة ولا حسمت فعلا، ويضيف ذلك عبئا فوق عبء علي المجلس العسكري بما يفرض عليه أن يتداخل في التفاصيل التي قد تتباعد عن مهامه الأساسية، ويحلو للبعض أن يؤكدوا أن الجيش حمي الثورة لكنني أعتقد أنه شارك ومنذ البداية، بل ومنذ ما قبل البداية في صناعة الثورة، ولعل مبارك ارتكب ذات الخطأ الذي ارتكبه الملك فاروق عندما أمر جيشه بالنزول إلي الشارع عقب حريق القاهرة فأتقن ضباطه عملية التمركز العملي في مفاصل الشارع والمنشآت الحيوية، ثم كانت ثورة يوليو، وهكذا أنزل مبارك إلي الشارع وبقرار منه الجيش، الذي تمركز واستقر وربما تحكم في كل موقع مهم وبذلك أصبحت إرادته جاهزة للنفاذ، ونزل الجيش نزولا حريريا فترك المتظاهرين علي تظاهرهم ولم يمد يدا ليحمي نظام مبارك، ثم وبعد يومين أصدر بيانا أعلن فيه أنه يتفهم مطالب الشعب، ولم يشر إلي اعتزامه حماية النظام القائم، ثم انعقد المجلس الأعلي للقوات المسلحة برئاسة المشير وليس مبارك، بل إن مبارك قد فوجئ بالاجتماع وذهب إلي مقر قيادة الأركان بعد انتهاء الاجتماع دخل وخرج ولم يشر لا هو ولا القادة إلي الاجتماع، وفيما كان مبارك جالسا في بيته متصورا أنه يحكم كانت بعض دبابات الجيش تتمشي في شوارع القاهرة ومكتوب عليها يسقط مبارك، ربما كتبها الثوار، لكن الضباط كان بإمكانهم محوها ولم يفعلوا، لأنهم كانوا يوجهون بها رسالة للجميع بمن فيهم مبارك نفسه، ولعل مبارك قد فوجئ مثلنا جميعا بما سماه التليفزيون قرار الرئيس بالتنازل عن سلطاته.. فهو كان بلا سلطة فعليا، ولعل الوزراء القدامي يتذكرون الآن سواء في محبسهم أو في بيوتهم أن الجيش قد وجه لهم في اجتماعاتهم وقبل 25 يناير بكثير أكثر من رسالة ساخطة علي لسان المشير، علي تردي الأوضاع والتحذير من تفجر الأمور، وربما تكون نقطة الحسم هي انتخابات الشعب والشوري. الجيش إذن شريك فاعل في صناعة الثورة والتحضير لها ولهذا فإنه يستحق الثناء علي ذلك، بل لعل السؤال الكاشف هو: ماذا لو أن مبارك قد استطاع بموقعة الجمل أو بغيرها أو بترتيبات لم تكن في حسبان ضباط المجلس العسكري إنهاء الثورة؟.. والإجابة معلومة تماما، لكن المجلس العسكري وبرغم استحقاقه هذا الثناء أقدم علي بعض السلبيات، لعل أولها قد استبان بتشكيل لجنة تعديل الدستور عبر مذاق واحد وكأنه أراد أن يقول للشعب لمحة عن تصوراته أو مقارباته، وكأنه وجه للجميع رسالة تقول: إذا جئت فابعث طرف عينك نحوهم لكي يعرفوا أن الهوي حيث تنظر وعرف العارفون وغير العارفين، وربما بالغوا في توجسهم حتي كان الاستفتاء علي تعديلات بعض مواد الدستور، التي أعدتها لجنة التعديل في سرية تامة ثم أطلقها المجلس إلي الاستفتاء دون مناقشة أو حوار أو حتي استطلاع رأي، وكانت النزعة نحو تديين هذه العملية فزاد التوجس توجسا، ثم كان إطلاق الإعلان الدستوري عبر أسلوب العزف المنفرد برغم أن عزف الأوركسترا أكثر إمتاعا وأكثر إثراء وأكثر قدرة علي إرضاء وإقناع الجميع، خاصة أن المواد الثماني احتاجت استفتاء لإقرارها أما الدستور كله فقد أتي بغتة، وعلي ذات المنوال أتي عدد من المراسيم بقانون، أُمطرت علينا في موسم سياسي صيفي شديد الحرارة مثل قانون الأحزاب وقانون البلطجة ثم قانون منع الاعتصامات «الذي لم يتجاسر أحد علي تنفيذه»، ثم كانت ملاحظات سلبية أخري مثل أسلوب التعامل مع التطرف السلفي وكذلك إفساح الطريق أمامه إعلاميا، والسكوت علي ارتكابه جرائم عدة وإعمال مبدأ التصالح العرفي الذي هو في حقيقته إكراه طرف علي التنازل عن حقوقه إزاء المعتدي، كذلك كان الترويع بتطبيق قانون البلطجة علي المعتصمين أو المضربين المطالبين بأجر عادل أو شبه عادل يكفي ولو بأقل قدر خبز الأطفال، وأعرف أن المضربين يطالبون حتي ولو كانت عادلة ومستحقة تماما بما لا تستطيع الخزانة شبه الخاوية الوفاء به، ولكن وإذا كان من الصعب إعمال قانون بحد أدني للأجر لأن الخزانة شبه خاوية فلماذا لا نصدر وعلي الفور قانونا بالحد الأقصي للأجر بحيث يستشعر الفقير أن شيئا ما قد تم أخذه من هذه الأجور المرتفعة ارتفاعا مجنونا لا يليق لا بوضعنا الاقتصادي، ولا حتي بكفاءة الحاصلين عليها، وساعتها سيصغي لكم الناس إن وعدتموهم بأجر أزيد بعد عدة أشهر أو بنظام ضريبي تصاعدي يأخذ من كبار كبار كبار الأغنياء بعضا مما يكنزون، وحتي وإن كان الوضع الاقتصادي غير ملائم فلا بأس من نقاش حول الأمر يضع بعضا من السكينة في قلوب الفقراء. تيارات الإسلام السياسي.. وهي تتماهي عبر أطياف متعددة تزايد تعددها بإطلاق التيارات السلفية ومنها فرصة القول الإعلامي غير الحصيف وحرية التحرك العنيف وحق ما يسمونه تعديل المنكر باليد وهذا لا يكون إلا بأن نقبل منهم أن الحاكم مبدل لشرع الله، وهناك جماعة الإخوان التي انتهزت فرصة الالتفات الحاني نحوها من جانب الحكم لتحاول التلويح بأنها القوة الأعظم في هذا الوطن، حسنا هم تنظيم قوي ومنضبط وشديد الثراء لكنه ليس كل شيء في مصر، وإذ تستشعر الجماعة زهو قوة ليست كما يتصورون فإنها تتمادي في تحالفات منها مؤتمرات مشتركة مع القوي السلفية الأشد تطرفا أو تلويحات بأنها ستمن علي القيادة بألا تترشح للموقع الرئاسي أو تمن علي القوي الأخري بأنها ستتنازل عن بعض ما هو مضمون لها وتكتفي بحوالي النصف من مقاعد البرلمان، ثم تصريحات من قبيل أن زمان لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين قد ولي، بينما هذا القول بذاته مخالف للدستور والقانون مخالفة صارخة. قوي الدولة المدنية.. ويمكنها أن تتمدد لتشمل القوي الليبرالية واليسارية والتقدمية وكل من يمد يدا باتجاه بناء مجتمع مدني حقا دولة مدنية حقا وتكفل حقوق مواطنيها جميعا علي قد المساواة، سواء في إدارة شئون الدولة أو تطوير الوضع الاجتماعي أو كفالة الخدمات والمرافق «التعليم والصحة والإسكان وفرص العمل وغيرها» أو المساواة بين المصريين في الواجبات والحقوق، المسلمون كالمسيحيين والنساء كالرجال والفقراء كالأغنياء، مع ضمان الحريات والديمقراطية وحرية الاعتقاد والإبداع، إنه وباختصار طريق مختلف باتجاه مختلف عما تروج له التيارات السلفية. .. ونتأمل هذه الأركان الثلاثة لنؤكد أن قدرتنا علي حشد كل مكونات تيار الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية سوف تحسم مستقبل مصر وسوف تحسم مسألة تحقيق توازنات جديدة باتجاه المستقبل وليس الماضي، وربما - أقول ربما - تحسم توجه الحكم نحو التعامل مع الطرفين الآخرين علي قدم المساواة.. ونحو الإسهام الجاد في بناء دولة مدنية حقا.. وأكرر حقا.