يوم الاستفتاء.. قالوا لي يا حاج! كانوا يقولون للسيدات.. اتفضلي يا ست.. وللفتيات.. اتفضلي يا آنسة ولأرباب المعاشات.. اتفضل يا حاج! الطوابير التي امتدت أمام مقار «الاستفتاء علي بعض مواد الدستور» يوم السبت الماضي لم تكن كأي طوابير عرفناها طوال الثلاثين سنة الماضية. في هذه الطوابير.. أمام المقر الذي أدليت فيه بصوتي.. لم تقف سيدة واحدة.. ولا مسن واحد فوق الستين في الطوابير، التي ضمت عشرات الآلاف من الشبان.. ومن القادرين علي الوقوف بالساعات الطويلة.. لأداء واجب وطني.. لم تجبرهم عليه سوي المشاعر الوطنية والرغبة في التغيير.. واللحاق بركب الأمم الناهضة التي يتم فيها تبادل السلطة.. ولا تسمح فيها القوانين باحتكار السلطة لمدة 30 سنة.. ثم تنتقل بعد ذلك إلي الأبناء والأحفاد انتقال الذباب علي الأكواب. لم تقف في هذه الطوابير سيدة واحدة ولا مسن واحد.. وتم الاتفاق علي أن تدخل السيدات والمسنون إلي اللجان مباشرة.. دون الوقوف في الطوابير. كانوا يقولون للسيدات.. اتفضلي يا ست! ويقولون للفتيات.. اتفضلي يا آنسة! ويقولون لأرباب المعاشات «اتفضل يا حاج» (!!!) هكذا كان الدستور غير المكتوب الذي ساد العلاقات بين الناس يوم السبت 19 مارس 2011. كان المشهد يدعو للتأمل.. وقد توقفت أمامه طويلا.. عندما اتجهت لأحتل مكاني في الطابور الطويل.. وإذا بالأصوات ترتفع من حولي: - اتفضل انت يا حاج.. خش علي طول! اندهشت.. واتجهت ببصري نحو الجندي الذي يتبع القوات المسلحة.. وكأنني أستفسر منه عن صحة ما وصل إلي سمعي.. فإذا بالجندي ينطق بالجملة نفسها.. وهو يشير للبوابة الرئيسية قائلا: اتفضل يا حاج.. من هنا! تذكرت مبتسما كلمات صلاح جاهين: قمت النهاردة الصبح.. منحرف المزاج. عيل في سن المدرسة.. قاللي يا حاج. وأنا زرت بيت الله.. لكن ما اسميش كده. ووليدة حبلي.. قالتها تاني.. عقلي وج. أنا اسمي مسيو كيت.. وكيت يا سيدة. لا بس مثقف زي توفيق الحكيم ببرية وتلفيحة. آخد كافية في سان ميشيل في باريس علي الريحة. ولما فقت من الهيام.. لقيتني واقع يا حرام. وأمم يتودوا لي بدفء مصري ويقولولي. ما يقع إلا الشاطر يا حاج.. ألف سلامة. ليك يا عم الحاج. تأمل الطيور انتهت كلمات صلاح جاهين.. التي داهمتني.. وأنا أسير.. بمنتهي القوة والنشاط في الممر الطويل نحو الغرفة التي سأدلي فيها بصوتي.. واستقبلني الموظف المختص بابتسامة صاحب العرس في يوم أنس.. وأدليت بصوتي وقلت «لا».. وخرجت أتأمل الطابور الممتد لما يزيد علي 500 متر أي نصف كيلو متر. لم تستغرق عملية الإدلاء بالصوت أكثر من خمس دقائق.. خرجت بعدها أتأمل المشهد.. وأتساءل: ماذا حدث لنا؟ ما سر هذا التحول في سلوكياتنا.. بعد ثورة 25 يناير المجيدة؟ ما سر هذه الثقافة الجديدة التي نلمسها في تعاملاتنا.. بعد الإطاحة برموز الفساد؟ إنها ظاهرة تستحق الدراسة.. لسبب بسيط هو أن مصر التي رأيناها يوم الاستفتاء.. هي مصر الحقيقية.. وليست مصر.. أحمد عز.. وجمال مبارك.. وصفوت الشريف.. وفتحي سرور.. وصحافة الحكومة.. وتليفزيون الفقي.. والبرامج الحوارية التي تتسم بالسذاجة المفرطة.. والتي تعكس النظرة الدونية التي يتطلع بها حكامنا.. إلي المواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة. لم تكن مصر.. التي تحكمها العصابة القديمة. مصر التي رأيناها يوم الاستفتاء.. هي مصر الحقيقية.. والمواطن الذي أدلي بصوته في الصناديق التي امتلأت عن آخرها.. ووقف في الطوابير لما بعد موعد إغلاق الصناديق في السابعة مساء.. هو المواطن الذي وجد.. أن صوته له قيمة.. وأن التصويت له قيمة.. وأنه هو.. في حد ذاته باتت له قيمة. لقد أراد المواطن المصري أن يستكمل ثورة 25 يناير بالوقوف في الطوابير والإدلاء برأيه.. رغم عدم إدراك الكثير من الذين أدلوا بأصواتهم بالتفاصيل الدقيقة للتغييرات المقترحة. التفاصيل غير المعروفة.. لا تهم. المهم هو المشاركة.. والإقبال غير المسبوق علي صناديق التصويت.. ليس في مصر فحسب.. وإنما في جميع دول الشرق الأوسط. نسبة المشاركة في استفتاء يوم السبت 19مارس.. فاقت نسبة المشاركة في أعتي الدول الديمقراطية في الشرق الأوسط.. وهي لم تكن في جوهرها.. مجرد مشاركة في التعديلات الدستورية المقترحة بقدر ما كانت استفتاء علي رفض النظام السلطوي الفاسد.. الذي دمر القيم المصرية الأصيلة.. وأشاع بين الناس الكراهية والأحقاد الطائفية والطبقية.. وأطاح بأصحاب القامات العالية في فروع العلم المختلفة.. وقام بتصعيد الصبية والسفهاء.. وأصدر القرارات الجهورية التي جعلتهم يتحكمون في رقاب وأرزاق من هم أرفع منهم شأنا وأعلاهم قدرا. كان عصر مبارك هو عصر قهر الرجال.. بكل معني الكلمة! ولذلك لم يكن من الغريب.. أن تحاول بقايا الحزب الوطني السرمدي.. الذي ظل يتربع علي عرش السلطة 30 سنة.. الخروج من مكامنها للتعامل مع الواقع الجديد.. بالثقافة القديمة وأن نري ميليشيات وبلطجية الحزب يحاولون تدمير هذه الصورة المشرقة.. بالثقافة القديمة التي كانت سائدة قبل الثورة المجيدة والتي استخدمها الحزب في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.. التي أدار شئونها المهندس أحمد عز.. واستعان فيها بجيش جرار من البلطجية.. المشهود لهم بسوء السمعة.. ويشكلون بقعا سوداء في أسواق الفجر والفسوق.. واقتحام المهالك مقابل أجر معلوم. الثقافة السائدة هؤلاء البلطجية هم رجال الحزب الحاكم سابقا.. الذين يتولون الدفاع عنه باستخدام الجمال والبغال والحمير تارة.. وبقذف الحجارة علي خصومه تارة أخري. وهذه الثقافة كانت هي الثقافة السائدة في شارع «محمد علي» موطن الساقطات والبغايا.. عندما كان لكل ساقطة بلطجي يقال له «الفتوة» يدافع عنها مرة.. ويبتزها ألف مرة.. وهي الثقافة التي تولي الحزب السرمدي تجديدها.. وتحديثها.. وبعثها من جديد. وشهدنا في السنوات الأخيرة.. كيف كانت لجنة السياسات تقوم بدور الراقصة.. التي يحرسها جيش من البلطجية وجيش آخر الطبالين.. وفي مقدمتهم الطبال الأول صفوت الشريف!! المهم.. أن بلطجية الحزب السرمدي تلقوا التوجيهات بإيقاع الدكتور البرادعي في كمين.. والاعتداء عليه بالضرب والطعن.. وحرمانه من الإدلاء بصوته. أي الثقافة نفسها.. التي استخدمها الحزب السرمدي في الانتخابات الأخيرة.. لدرجة أن الذين تابعوا عملية الاعتداء علي الدكتور البرادعي.. قالوا: لقد رأينا المشهد نفسه في العديد من الدوائر في الانتخابات الأخيرة.. وكأننا نتابع فيلما سينمائيا.. يعاد عرضه من جديد. المشكلة هنا.. إن النظام البائد يتصور أن البرادعي هو الذي قاد الثورة.. وأنه المخطط الأول لها.. وأنه الذي أدار الجانب السياسي والاستراتيجي لها.. علاوة علي أنه الأقوي بين المنافسين لعمرو موسي.. مرشح الحزب الوطني السرمدي في الانتخابات الرئاسية. ومن هذا المفهوم تعرض البرادعي للقذف بالحجارة والهتافات المعادية.. في الوقت الذي أدلي فيه عمرو موسي بصوته.. وسط حراسة فتوات وبلطجية الحزب السرمدي، وظهر في صحف الحكومة مبتسما.. ومبديا استعداده للتعاون مع الدكتور محمد البرادعي.. حال فوزه بمنصب رئيس الجمهورية (!!) ومعني الكلام أن عمرو موسي سيفوز في الانتخابات ويصبح رئيسا.. ثم يختار البرادعي ليعاونه في شئون الرئاسة (!!) والحقيقة أن عمرو موسي.. لم يكن الرمز الوحيد من بين رموز النظام البائد الذي ظهر علي ساحة الاستفتاء.. ولم يتعرض للضرب والقذف بالحجارة.. وإنما ظهر معه فتحي سرور الرجل الذي وضع القوانين التي تحمي الفساد والمفسدين.. وظهر أيضا مفيد شهاب الذي ظل يدافع عن الرئيس المتخلي وسياساته.. وتعليماته لسنوات وسنوات.. وهو أقوي المرشحين ليخلف عمرو موسي في «تكية» الجامعة العربية. لم يتعرض أي رمز من رموز النظام البائد للقذف بالحجارة.. ولا الهتافات المعادية.. وهو أمر يحتاج إلي التأمل وإلي إمعان الفكر وسط مزاعم تري أن الرئيس السابق المتخلي.. لايزال يحكم مصر.. وأن نجله جمال هو الذي يدير شئون البلاد.. ويحرك الفتوات والبلطجية والعصبجية لحماية أنصاره.. علي غرار ساقطات من شارع محمد علي «سابقا»! النصب والاحتيال الرموز التي كنا نطالب بمحاكمتها.. ظهرت تدلي بأصواتها في التعديلات الدستورية.. وتخرج ألسنتها لأهالي الشهداء.. وتقول رأيها في المستقبل.. بعد أن ألحقت بالماضي الدمار الشامل. وهي حالة فريدة لم تسبقنا إليها دول العالم التي خاضت تجارب التحول من نظم قمعية استبدادية لنظم تحترم حقوق الإنسان.. وهي تؤكد ما يتردد حول عملية التوريث التي تمت بالفعل.. وأن الذي يحكم البلاد الآن هو جمال مبارك. ومن مشاهد يوم الاستفتاء أيضا ظهور التيارات السلفية وكل ألوان الإسلام السياسي وجماعات النصب والاحتيال التي تدعي أن إسلامها يفوق إسلامنا وأنها تحفظ من آيات القرآن الكريم أكثر مما نحفظ. مفهوم طبعا.. أن قيادات هذه التيارات لا علاقة لها بالدين الإسلامي.. وإنما هي تمارس السياسة تحت ستار الشعارات الدينية علي نمط جماعات النصب والاحتيال التي تعمل في مجال توليد الدولارات. هي لا تؤمن بالديمقراطية ولا بتبادل السلطة.. وهي تنتهج أساليب النظام البائد.. سواء بتخوين المخالفين.. وكونهم من عملاء الخارج الذين يتلقون التمويل من أمريكا.. وفقا لما جاء علي لسان كبيرهم محمد بديع المرشد العام للجماعة.. أو برفض فكرة الاختلاف في الرأي. ولذلك لم يكن من المثير للدهشة أن نري أمام لجان الاستفتاء عددا كبيرا من السلفيين.. ينصحون الناس بعدم الخروج علي ولي الأمر.. الذي نصحهم بأن يقولوا «نعم» وأن يتمسكوا بالمواقف الموروثة لدي معظم أهل السنة والجماعة الذي اعتبر أن الطاعة السياسية للحاكم.. حتي وإن كان ظالما.. فرض عين علي المسلمين.. وأن ما يجري من توريث حسني مبارك السلطة لنجله جمال هو في صلب العقيدة.. وقد حدث في عهد معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد.. ما يتعين علينا قبوله. وهكذا تجمعت أمام لجان الاستفتاء كل ألوان الطيف السياسي.. وكان من الطبيعي.. أن أسمع من يقول لي: اتفضل.. يا حاج.. سلامتك يا حاج!