حققت الثورة الشعبية في تونس هدفها المباشر بإسقاط الرئيس زين العابدين بن علي ودفعه إلي الهروب خارج البلاد، ولكن نظام الرئيس بن علي لايزال موجودا بأكمله، وبالتالي فإن القضايا الأساسية التي يعاني منها الشعب التونسي لاتزال قائمة بلا حل، ولا يعني نقل السلطة إلي رئيس مجلس النواب «محمد فؤاد المبزع» تمهيدا لإجراء الانتخابات الرئاسية خلال 60 يوما أن كل مشاكل تونس قد انتهت، باستبدال رئيس هارب برئيس آخر لا أحد يعرف حتي الآن شخصيته في ضوء عدم بدء السباق الرئاسي. وهذا لا يعني أبدا التقليل من أهمية ما حدث في تونس، بل علي العكس فإن الانتصار الرائع للثورة الشعبية التونسية التي بدأت واستمرت عفوية تماما دون وجود قيادة سياسية لها خوفا من بطش السلطة الديكتاتورية، هذا الانتصار يفتح الأبواب أمام القوي السياسية بمختلف أطيافها لكي تواصل عملية النضال السياسي لإرساء قواعد ديمقراطية للحكم في تونس في السنوات المقبلة. وفيما بدأت المشاورات والاتصالات بين مختلف القوي السياسية في الداخل والخارج، فإن هناك مخاوف حقيقية من أن تتم «سرقة» الثورة الشعبية بعدة إجراءات ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية في الأساس لتهدئة الخواطر الغاضبة من ارتفاع الأسعار وزيادة نسبة البطالة وهيمنة السلطة البوليسية المتوحشة التي كانت علي كل حال سببا في اندلاع الثورة عندما اعتدي ضابط علي الشاب «محمد بوعزيزي» في بلده سيدي بوزيد علي بعد 360 كيلومترا من العاصمة تونس وتمت مصادرة «عربة يد» كان يبيع عليها خضراوات ولم يستطع استعادتها فقام بإحراق نفسه أمام مقر البلدية وهو ما أطلق شرارة الاحتجاجات التي استمرت قرابة شهر كامل حتي تم إجبار بن علي علي الهروب الذي لم يجد أي مخرج، رغم تقديمه لعدد من التنازلات في خطابه الأخير قبل الهروب بيوم واحد فأقال وزير الداخلية وقال إنه فهم رسالة الشعب التونسي واتهم حكومته بعدم تطبيق سياسة ديمقراطية صحيحة خاصة في مجال الإعلام والحريات ووعد بتحسين شامل للأحوال الاقتصادية بضخ 5 مليارات دولار للتنمية العاجلة، بعد أن كان قد رصد في منتصف الأزمة 15 مليون دولار فقط لتلك المشروعات. شباب الإنترنت وفي صدارة المشهد التونسي فإن الشباب المتعلم بداية من المراحل الإعدادية والثانوية حتي الجامعات، هم أبطال الثورة عبر توظيف شبكة التواصل الاجتماعي «الفيس بوك وغرف الدردشة والتويتر» وغيرها للتواصل اليومي، بالإضافة إلي استخدام كاميرات الهواتف المحمولة والرسائل القصيرة في التحرك وتنظيم التظاهرات، وتحول ذلك كله إلي وسائل إعلامية سريعة الاتصال بدون أي رقابة، في ظل صمت مطبق للصحف الحكومية والحزبية والمستقلة التي تعاني من رقابة صارمة جعلتها مجرد نشرات لا تقدم سوي أخبار كرة القدم اللعبة الشعبية الأولي كالعادة في الدول العربية، مع معاناة الفضائيات التليفزيونية والإذاعية لنفس الحظر والفقر الإعلامي الرهيب.. وساهم إتقان الشعب التونسي للغة الفرنسية نتيجة الاحتلال، ووجود عدة ملايين في فرنسا، إلي التواصل المستمر مع الأوضاع الاحتجاجية التي سادت فرنسا مؤخرا، واستمد الشباب التونسي خبرات متطورة في عمليات الاحتجاج المتصلة، والتي ركزت بشدة علي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المنهارة إضافة إلي تداول قصص الفساد الأسطورية. أول ثورة للوكليكس وساهمت تسريبات «الوكليكس» في دفع الشعب التونسي للثورة، فما جاء في تلك الوثائق عن فساد أسرة الرئيس خاصة زوجته «ليلي الطرابلسي» وعائلتها يتقدمها شقيقها عماد الذي قيل إنه قتل خلال محاولته الهرب، أصاب التونسيين بالغضب، فالأموال الطائلة تسرق وتحول إلي الخارج، علاوة علي بناء القصور التي تم إحراق عدد منها، فيما يعاني الشعب التونسي خاصة الخريجين من البطالة وانعدام فرص العمل. حركة عمالية ونقابية نشيطة وفيما تم حصار الحركة السياسية رغم وجود تعددية حزبية إلا أنها مقيدة إضافة إلي تجريم عمل فصائل سياسية أخري يسارية علي وجه الخصوص، وكذلك الفصيل الإسلامي «النهضة» فإن الحركة «العمالية» النشطة والتي ركزت تاريخيا علي النضال النقابي العمالي برزت كأكبر قوة في تنظيم عمليات الاحتجاج اليومية، وهي أصلا صاحبة تاريخ كبير في النضالات الاحتجاجية وخاصة أنها ابتعدت عن القضايا السياسية. الخطوة القادمة في ظل هذه المعطيات فإن الخطوة القادمة في تونس هي الأهم لقطف ثمار الانتفاضة العفوية والانتقال إلي منابر نظام ديمقراطي وبالتالي الحصول علي دستور جديد يضمن الحريات العامة ويرعاها، والتصدي لكل صور الفساد وأن تتحول التنمية لصالح الشعب وأن تصله ثمار تلك التنمية إلي من لم تصل إليهم أبدا أي معظم أبناء الشعب التونسي، ولذلك كان إصرارهم العظيم علي مواصلة الانتفاضة رغم سقوط عشرات الشهداء في هرب بن علي ويبقي أن يختفي نظامه وأن يتم بناء نظام ديمقراطي حقيقي جديد.