مدحت الزاهد أحد الوجوه البارزة في الصحافة المصرية - من جيل السبعينيات - صدر له مجموعة من الكتب التي تغوص في البنية السياسية والاجتماعية والثقافية المصرية والعربية نذكر منها «عولمة ضد العولمة» و«مدافع شارون» و«مستقبل العمل الأهلي» وله تحت الطبع «جماعات التغيير» و«تجارب لاتينية في ديمقراطية المشاركة». في كتابه الأخير «تجارة الجنس.. شهادات مصرية وعربية» يأخذنا مدحت الزاهد إلي منطقة بالغة الخطورة - لكنها للأسف موجودة في المجتمع - وتعد من الأمراض الاجتماعية المزمنة - التي تنخر في جسد المجتمع وهي «تجارة الجنس» والناتجة - بكل تأكيد- عن استشراء حالات الفقر والبطالة والحرمان، وللأسف - أيضا - علي حسب ما يورد المؤلف فإن هذه التجارة اللعينة بالبشر تعد ثالث الأنشطة التجارية بعد «المخدرات والسلاح» والتي تحقق لشبكات وشركات عالمية أرباحا طائلة، مما يجعل الأمر في النهاية حالة من حالات «عبودية البشر».الدراسة في مجملها بحث ميداني مضن استطاع من خلالها «مدحت الزاهد» كشف النقاب عن الممارسات التي تقوم عليها تلك التجارة وما يعترضها من مخاطر وحقائق مفزعة، والتعمق في رصد جذورها من خلال قراءة سوسيولوجية لأبعاد القضية، معضدا ذلك بشهادات متنوعة مصرية ودولية لضحايا التجارة الجنسية. ومن المميزات الأولي للكتاب أن المؤلف تعامل مع القضية علي كونها «ظاهرة» وليست أمرا عارضا لكونها تتم علي نطاق عالمي، وليس في إطار محلي - فقط - مؤكدا أن أكثر أشكالها شيوعا هو «التجارة في النساء والأطفال لأغراض جنسية» ولكونها - أيضا أكثر بشاعة من التجارة في الأعضاء البشرية بالبيع، والتي تحول الفقراء، تحت أعنف الضغوط إلي قطع غيار بشرية علي حد تعبيره في مقدمة الكتاب. ويلقي «الزاهد» باللوم علي انتشار هذه الظاهرة علي الحكومات والنظام الدولي ومؤسسات المجتمع المدني لكونها تتخذ شكل الظاهرة الاقتصادية والاجتماعية التي صنعتها وأعادت إنتاجها أوضاع ترتبط بالظروف الاقتصادية والاجتماعية، وارتباطها - كذلك - بشكل شرس بمنظومة القيم العولمية الاستهلاكية التي أتت علي الأخضر واليابس وساعدت - بشكل كبير - في تآكل القيم الإنسانية وانهيارها خاصة أنها تجارة تقوم علي «تسليع البشر» خاصة النساء بالإضافة إلي أنها جالبة لأخطر أمراض العصر وهو «الإيدز» الذي يتراوح عدد المصابين به في العالم ما بين 33 إلي 39 مليون نسمة وفق تقديرات صندوق الأممالمتحدة للسكان عام 2005، وأن 90% من حاملي هذا المرض يأتون من الدول الأقل نموا خاصة دول جنوب الصحراء الإفريقية، التي تحتل المرتبة الأولي عالميا. ومن أكثر المنطلقات البحثية التي أعطت لكتاب «الزاهد» مرونة هو اعتماده علي الجانب التوثيقي للظاهرة من ناحية، ومن ناحية أخري إيراده لمجموعة من الشهادات الحية لعدد ممن مارسوا هذه التجارة - بشكل ميداني غاية في الدقة وبلغة من أدلوا بهذه الشهادات مما أعطي الجانب التوثيقي مرونة ومصداقية. ضرورة المواجهة ويري «الزاهد» في الفصل الأول المعنون ب «المخاطر واستراتيجيات المواجهة» أن النساء والفتيات يأتين علي رأس قائمة ضحايا الإتجار بالبشر خاصة من آسيا إذ يتم نقلهن إلي مختلف قارات العالم الأخري أو داخل المنطقة نفسها وذلك وفقا لما أورد التقرير العام الصادر عام 2009 عن مكتب الأممالمتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة. ويؤكد «الزاهد» أن خطورة هذا الأمر بالنسبة للواقع المصري أن نسبة ضئيلة جدا من تلك التجارة هي التي يتم كشفها وتقدم للقضاء موردا جزءا من تصريح السيدة سوزان مبارك في مؤتمر «الإتجار بالبشر.. عند مفترق الطرق» والذي عقد في يوليو 2009 بالعاصمة البحرينية المنامة، والتي أكدت فيه أن حالة واحدة فقط من بين 800 حالة إتجار بالبشر هي التي تحال إلي القضاء، معتبرة أن ذلك يؤكد بأن الطريق لايزال طويلا أمام مواجهة هذه المعضلة، واصفة الناشطين في هذا القطاع بأنهم «عصابات منظمة تعمل بشكل سري» وخاصة أن هذه التجارة تدر عليهم ربحا يتجاوز 38 مليار دولار سنويا. كما يورد «الزاهد» مجموعة من التقارير حول هذا الموضوع صادرة من الخارجية الأمريكية والتي تشير إلي ما يقوم به بعض أثرياء الخليج العربي الذين يسافرون إلي مصر ليشتروا «زيجات مؤقتة» من مصريات بينهن فتيات دون الثامنة عشرة من العمر، كذلك يرصد التقرير بعض الممارسات التي تتم ضد أطفال الشوارع. أشكال مختلفة كما يرصد الكتاب مجموعة من الأشكال المختلفة لهذه التجارة ومنها «زنا الإنترنت والبرنو» والموجودة علي المواقع الإباحية علي الشبكة العنكبوتية بعد دفع رسم الدخول، وكذلك «السياحة الجنسية»، ومنها كذلك «الزواج العرفي.. محدود المدة» أما الفصل المعنون ب «ينابيع الجنس التجاري» فهو أحد أهم فصول الكتاب لأنه يذهب إلي حيث الجذور الأساسية لهذه الظاهرة الشرسة، وأول هذه الجذور «الفقر» حيث يورد المؤلف تقرير التنمية البشرية لعام 2007 الصادر من الأممالمتحدة والذي يشير إلي أن مصر تحتل المركز 111 عالميا بين الدول الأكثر فقرا فهناك 14 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر، بينهم أربعة ملايين لا يجدون قوت يومهم. وأهمية هذا الفصل أنه يقوم علي البعد الإحصائي من خلال الاعتماد علي أرقام حقيقية بالإضافة إلي شهادات حية. وثاني هذه المنابع هو التفكك الأسري، وثالثها: سيطرة الثقافة الجنسية الذكورية، ورابعها: انتشار العنف والتمييز ضد المرأة. ويحاول «الزاهد» أن يضع مجموعة من الحلول - في بحثه - لمواجهة ما أسماه ب «عبودية البشر» مؤكدا أنه لن تنجح استراتيجية للمقاومة تعتمد علي معالجة الأعراض فقط، بل إن الأمر - لخطورته - يتطلب تجفيف المنابع التي تعيد معالجة الظاهرة بمساندة اجتماعية شاملة. وبعد: فإن أهمية هذا الكتاب تأتي من كونه صادما وكاشفا عن مرض اجتماعي خطير يهدد المجتمع، وينذر بمخاطر أخري متعددة.