بين عجرفة القوة .. والجاذبية التنموية فاجأ رئيس الوزراء الإثيوبي " ملس زيناوي " كثيرا من دوائر السياسة والإعلام بتصريحاته عن "الحرب بين مصر واثيوبيا من أجل المياه " والتي تسود آثارها القرن الأفريقي نتيجة ما أسماه مساعدة مصر "لمجموعات متمردة" . والذي أتصوره أن البلدين -إثيوبيا ومصر- يمران بظروف صعبة ، وقد أجمعت معظم التحليلات مؤخرا ، أن ثمة آلية لدي البلدين للتغلب علي مآزقهما أحيانا بمعالجات ساخنة لمسائل أخري . ولأني أتحدث الآن عن إثيوبيا - وليس عن مصر التي تعمل أجهزتها أحيانا بنفس "الأسلوب الاستفزازي الاثيوبي- فدعونا نتأمل وقائع : أذكر مثلا كيف أثار الامبراطور هيلاسلاسي مسألة الحد من قوة البرلمان الاريتري شبه المستقل 1958 عندما اتجهت مصر للوحدةمع سوريا ، تلاها إلغاء الفيدرالية تماما مع اريتريا عام 1961 مع وقوع انفصال سوريا كفرصة لاظهار تحديه وضمان عدم إثارة مسألة شرعية هذا القرار بحكم العلاقة الخاصة بين مصر والاريتريين . وعقب ذلك بعدة أعوام ، ومصر في قمة نفوذها الأفريقي منتصف الستينيات يقطع الامبرطور علاقة الكنيسة الاثيوبية بالكنيسة المصرية أو بالأحري يغير شكل العلاقة العضوية إلي علاقتها الاخوية وكفي ! بداية الازمة وبالمثل عندما يتغير النظام الاثيوبي إلي "الثورية " أوائل السبعينيات ، تكون مصر في الاتجاه المعاكس للرئيس السادات ، إذ يذهب "الجنرال مانجستو" بعيدا مع السوفييت ، يقابله الذهاب بعيدا في مصر مع الأمريكيين والتعاون معهم فيما سمي مواجهة النفوذ الشيوعي في أفريقيا ، ولتكون "الصومال" هي ساحة المواجهة، ومع استعراض القوي المتبادلة للنظامين في السبعينات تتحدث اثيوبيا عن تحجيم تطلعات الصومال التي باتت " يمينية" متجهة إلي الجامعة العربية وإلي التدخل مع الصوماليين في إثيوبيا ، ويتحدث الرئيس السادات وقتها عن "الحرب مع إثيوبيا من أجل المياه" ويومها عام 1977/1978 يصرخ عبد الهادي راضي وزير الري أواخر السبعينات- علي ما أذكر من "شح المياه جذريا" ، فاختلط ساعتها مطلب المياه ،مع مطلب تأديب " النظام الاثيوبي بالحرب ...كغطاء لايخفي ، لسياسة أخري ، ولم تشح المياه إلي هذا الحد ، ولم تستمر نغمة أصحاب انتصار 1973 في ممارسة مشاعر القوة ، إزاء التوجه الكامل لدبلوماسية السلام الشامل ! وقد بدأ النظام الاثيوبي نفسه مع ثورة الرئيس "زيناوي" 1991 ، رجلا سلاميا تماما بتسليمه باستقلال أريتريا أساسا، وارتياحه إلي انهيار الدولة الصومالية نفسها ، بل وإلي متاعب السودان في الجنوب . لست في حاجة لتكرار إيضاح صورة القرن الافريقي الذي بدت فيه اثيوبيا منذ مطلع القرن الواحد والعشرين تلمع كقوة إقليمية في أكثر من موقع . فهي قوة في تنظيم "الإيجاد" الذي ضم القرن الافريقي مع شرق أفريقيا فيما بدأ أولا كمنظمة لمحاربة الجفاف ، ثم تطور كمنظمة للتنمية ثم ليصبح تنظيما سياسيا يعالج شئون السودان حتي عقد اتفاق "نيفاشا" في نيروبي ، وهي ذات قول في الصومال حتي دخول القوات الاثيوبية إلي -البلد العربي الشقيق- بين عامي2006-2008. وما تكاد تنسحب القوات الاثيوبية التي بلغت عشرين ألفا حتي تعود فرق منها للتأديب أوالرد علي بضعة آلاف صومالية لانعرف مصدر قوتها حتي الآن . ثم ها هي تتحالف مع أوغندا وبوروندي ،لاستمرار أعمال التأديب في الصومال الشقيق بآلاف من الجند ، يتزايدون مع استمرار موقف الاتحاد الافريقي دعما للتدخل في ظروف التدهور المستمر في الصومال . ولاأظن أن ذلك يبرر كل هذا القلق الاثيوبي "كقوة إقليمية تنفرد بالتحرك هناك ما دام أشقاء الصومال لايعبرون عن أي قلق تجاهه ! اساس المعالجة لذلك كله عبر الموقف المصري الرسمي عن اندهاشه من تصريحات الرئيس الاثيوبي معربا عن سياسته الودية الدائمة نحو اثيوبيا ! والحق أن دوائر أخري داخل الدبلوماسية المصرية أو مسئولي ومثقفي قضية المياه ، كانوا قد بدأوا يتحدثون عن إمكان إعادة النظرفي نقاط الخلاف التقليدية ( الاتفاقات السابقة -والحقوق التاريخية ...الخ) ليعتبر الحديث عن التعاون والتنمية المشتركة أساس المعالجة في ظل مفاوضات هادئة ...وتصورت أن الدبلوماسي المصري ينتظر استجابة الدبلوماسية التقليدية الاثيوبية لتحركه الأخير ، خاصة وقد نجحت تيارات ثقافية ودبلوماسية مصرية ذات وزن في التخفيف من آثار تصريحات ..."مندفعة " سابقة عن إمكان الحرب من أجل المياه . وقد شاركت بدوري في الدهشة من حديث الرئيس الاثيوبي ، في الوقت الذي تثيرنا فيه طوال الأسابيع الأخيرة ، تصريحات السيد أحمد أبو الغيط بأن مصر تعيش تغيرات كبيرة وحديثه في العالم الآن بما يجعلها تنسي أو تتطلب نسيان أفكار الستينات التي عرفها مقر " خمسة أحمد حشمت بالزمالك" .ويقصد بها أفكار التحرر الوطني ، والقوة الاقليمية الحقيقية ، والنهوض مع أفريقيا سياسيا واقتصاديا ، بينما كان الوزير ما زال في طور التعرف علي القضايا العالمية بعد "قمة العالم" في نيويورك 1960 من أجل صدور الإعلان العالمي لتصفية الاستعمار في 14ديسمبر 1960 . بينما نحن نجادل هذه الدبلوماسية المصرية "الهادئة" والمستريحة لحالتها وإذ بنا نفاجأ بتصريحات رئيس الوزراء الاثيوبي بما لايمكن تفسيرها إلا بالقلق علي الأوضاع في القرن الافريقي وحوض النيل من جهة ، وعدم ثقته من جهة أخري فيما يتوافر له في الواقع من أوراق الاستقرار . عجرفة القوة ومعني ذلك أن "القوة الإقليمية الاثيوبية " لن تبقي وحدها في الميدان ، وقد تحاصرها حدة التوترات الداخلية القائمة فيها منذ الانتخابات الأخيرة " غير الشفافة" منذ عامين حيث لم تستسلم القوي الرافضة لنتائجها حتي الآن! لذلك شعرت أن "الأوراق المضافة " للقوة الاقليمية الاثيوبية مؤخرا غير مطمئنة للرئيس الاثيوبي بينما يجتمع في أديس أبابا المجلس الوزاري للمياه في إطار الاتحاد الأفريقي ويجري التمهيد لاجتماع وزراء المبادرةأو الري لو أمكن ذلك بعد هذه التصريحات . بل ويطرح الرئيس الأوغندي قمة لدول حوض النيل يتم عبرها "تسييس " القضايا بدلا من بقائها متوترة في يد الفنيين ، وتعوق اثيوبيا - حسب التقارير الصحفية-إتمام مثل هذه القمة. لايبقي لتفسير الموقف الاثيوبي خلافا لقلقها علي "القرن" و"الحوض" إلا التفسير "بعجرفة القوة" التي لم تنفع اثيوبيا في الصومال طوال أعوام، ولا مع اريتريا لعامين سابقين1998-2000 ، رغم أن القوتين "الأعداء" لم يكونا في حجم القوة المتعجرفة ذات الجيش التاريخي المعروف ، والثمانين مليونا من البشر من سكان اثيوبيا ! لكن للقوة في اثيوبيا الحديثة مصادر يجب الانتباه لها أيضا وإن كانت لاتقبل توظيفها في أجواء التوتر .فالمليارات تتدفق علي اثيوبيا لالمجرد السدود التي يتوهمها بعض الكتاب المصريين ولكنها لمشروعات عالمية لتوليد الطاقة يتنافس حولها الغرب والشرق ! وفي اثيوبيا ، مع التوتر في السودان - فرص جذب الأموال الاستثمارية ذات الطابع الانشائي والتجاري علي السواء ، مما جعل بعض التقارير الاقتصادية لمثل البنك الأفريقي وغيره تقدر معدل النمو في أثيوبيا ب9% عام 2009 ، وتتوقع أن تكون أكثر من 10% عام 2011 !وهذه الارقام تجعلها تنافس علي المرتبة الاولي في أفريقيا ..مع من؟..مع الكونغو - مالاوي - أوغندا- أنجولا....إلخ معني هذا أن تتحول "عجرفة القوة "-ربما - إلي" محور ارتكاز" لمشاريع العولمة التي تجمع الصين مع أمريكا والهند وتركيا في اثيوبيا !. ولأني للأسف لم أجد أسماء الدول الكبيرة المعروفة وذات التاريخ التنموي في أفريقيا مثل مصر ضمن قوائم التنمية المتصاعدة التي تضم أثيوبيا وغيرها ، فقد اكتفيت بإعادة قراءة تصريحات رئيس الوزراء الاثيوبي !