صور الجموع في ميدان الاستقلال في العاصمة كييف، واسمه بالاوكرانية «مايدان» تملأ شاشات التليفزيون والصحف. جماهير حاشدة تعتصم طوال اسابيع في مدن يسودها الصقيع للتعبير عن سخطها على تدهور الاحوال المعيشية وعلى الفساد وتطالب بالحرية. هذه الجماهير، مهما كانت الرايات التي التفت خلفها، ليست هي التي حسمت الصراع السياسي الدائر. في غرب اوكرانيا روجت المعارضة لشعار الانتماء للاتحاد الاوروبي، الشعار الذي سارت خلفه جماهير غفيرة ظنا انه شاطئ النجاة من الفساد والفوضى والفقر وضمان حياة رغدة كريمة. وفي شرق اوكرانيا ساد القلق من فصم العرى الاقتصادية والثقافية والانسانية التي تربط البلاد تاريخيا مع روسيا. لم تعد هنالك قيادات تحوز على ثقة الجماهير. لا الحكومة ولا المعارضة. معظم الاسماء التي شاركت في الحكم تلوثت سمعتها بوقائع فساد راج الحديث عنها. مصير اوكرانيا (وليس مصير اوكرانيا وحدها!) كان ومازال يمثل موضوع صراع يجري بين دول وقادة مجموعات من عتاة الرأسمال. صراع يديره خلف خشبة المسرح وفي غرف مغلقة سفراء ووزراء من دول عديدة ومؤسسات مالية عالمية وقيادات من اجنحة الطغمة المالية الاوكرانية التي تبسط سيطرتها على البرلمان والاحزاب والاعلام. في هذه الجولات التفاوضية يكاد صوت الشعب المنقسم سياسيا واثنيا ومذهبيا يكون غائبا. مع تفكيك الاتحاد السوفييتي والعودة المنتصرة الرأسمالية انطلقت اكبر عملية نهب لملكية الشعب في التاريخ لصالح مجموعات من قيادات السياسة والاقتصاد. في العديد من الجمهوريات السوفييتية السابقة استولت على الحكم مجموعات من قيادات حكومية سابقة ومجموعات من المغامرين الذين اصبحوا فجاة مالكين لمجمعات صناعية هائلة وحقول نفط وغاز وشبكات تجارية وامتدت امبراطورياتهم الناشئة لتملك مؤسسات اقتصادية في العالم الغربي بل ووصلا لملكية نوادي رياضية شهيرة في بلاد العالم. ومنذ البداية اندمجت الرأسمالية الناشئة مع الرأسمال العالمي بحثا عن الأمان والخبرة. ومن ناحية أخرى كانت اوكرانيا (46 مليونا) ثاني اكبر بلدان (اتحاد الدول المستقلة) أو الاتحاد الاورو آسيوي كما يوصف احيانا . وأوكرانيا ظلت دائما في مركز اهتمام الولاياتالمتحدةالامريكية والاتحاد الاوروبي وبالطبع حلف شمال الاطلسي «الناتو» ولم تتوقف جهود هذا الثلاثي لجذب اوكرانيا للاتحاد الاوروبي ولحلف شمال الاطلسي. محاولة روسيا انشاء تحالف الدول المستقلة اطارا اقتصاديا وأمنيا جامعا لجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة لم تنجح. الاغراء الآتي من الغرب كان اقوى. ولكن مخاوف روسيا كانت ومازالت مبررة. وكما رأى الروس فان التحول الي دولة رأسمالية لم يكن كافيا ليكسبها ثقة الغرب. ومازالت الحرب الباردة دائرة. ومثال دول اوروبا الشرقية التي انضمت لحلف الناتو مثل طوق يحاصر روسيا تقض مضاجع الروس. انتصار الطغمة المالية تكتب مجلة «شبيجل» الالمانية (24 فبراير) «المنتصرون ليسوا النشطاء في ميدان الاستقلال بل هم اثنان من اغنى رجال البلد». وكما تكتب شبيجل بالتفصيل ان المفاوضات التي دارت للتوصل الي حل سلمي يصون وحدة البلاد ويقيم حكما ديمقراطيا انتهت لصالح شخصيتين تهيمنان على الحياة السياسية هما رينات احمدوف وديمتري فيرتاش، رجلا الاعمال اللذان اثريا بسرعة خرافية منذ بداية التسعينيات وبسطا سيطرتهما على الاقتصاد و رعايتهما على المتعاقبين في حكومات اوكرانيا وكذلك على الاحزاب وأعضاء البرلمان والاعلام. ربما جاءت عروض روسيا الاقتصادية السخية لانقاذ الاقتصاد الاوكراني (35 مليار يورو) متأخرة. ولن يكون قرار دولة على شفا الافلاس (الي من نلجأ؟) قرارا سياديا مستقلا. موازين القوى، والساسة الباحثون عن مناصب، ودوائر رأس المال، والاعلام الموجه ، ومليارات الدولارات واليوروهات ستلعب دورا حاسما في القرار. الوضع الحالي ينبئ بان حكام اوكرانيا الحاليين (ان ظلوا) سيختارون الغرب. الثمن سيدفعه الشعب الاوكراني، كما تعلم البلغار والرومانيون. خصخصة .. بطالة..فساد..تبعية..أزمة. النظام العالمي القائم يتيح للولايات المتحدة وحلفائها مواصلة التوسع وبسط الهيمنة. والقضية التي تمكن من هذا هي سياسات الدول المقصودة ذاتها. ما يحدث في اوكرانيا يمكن ان يحدث في بلدان أخرى طالما ان القضية الحاسمة لم يدر التصدي لحلها، الا وهي تطبيق سياسات تضمن انتشال الامم من الفقر والتخلف والاستغلال الرأسمالي. الدول التي تحكمها الرأسمالية المتوحشة او النيوليبرالية تحت اي رايات كانت، دينية او قومية او غيرها، لا تستطيع حتى ان تضمن الحفاظ على وجودها. فهي عرضة للانقسام والتفتت. انظر السودان وعدد من دول افريقيا. انظر العراق وسوريا. بدون نهج سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي يضمن نهضة اقتصادية وثقافية واجتماعية و تحقق آمال الشعوب في حياة كريمة تظل كل البلدان معرضة للاضطرابات والسقوط تحت الضغوط الاقتصادية والسياسية ومن ثم تقع في حفرة التبعية.