ففى 17 فبراير 1948 تهتز الرجعيات العربية كلها إذ تقع محاولة انقلاب فى صنعاء ضد نظام الإمامة المتخلفة ويقتل الإمام وثلاثة من أبنائه. ولقد هزت المحاولة الرجعيات العربية جميعاً، التي كانت تري فى أية محاولة للتغيير العنيف عدوي يمكن أن تنتشر علي أرضها. ولقد دهش الجميع عندما وجدوا أن «أصابع» الإمام البنا ممتدة بعيداً حتي صنعاء، وعندما أعلنت جماعة الإخوان نفسها شريكاً فى الصراع اليمني ووسيطاً بل وحكماً يملي شروطه، ويتقدم بمطالب إصلاحية ويحدد المناصب التي يجب أن توزع علي قادة الانقلاب الذين إتضح للجميع أنهم كانوا علي علاقة وثيقة بالشيخ البنا، وهو أمر لم يحاول الشيخ أن يخفيه، بل لعله – فى بعض الأحيان- تعمد الزهو بهذه الحقيقة. والحقيقة أن علاقة البنا باليمن علاقة قديمة، فعندما عقد فى لندن مؤتمر لبحث القضية الفلسطينية عام 1938، أوفد الإمام يحيى إبنيه سيف الإسلام أحمد، وسيف الإسلام عبد الله، وأوفد البنا مع الأميرين واحداً من الإخوان يجيد الانجليزية هو الأستاذ «محمود أبو السعود» ليكون سكرتيراً ومترجماً لهما. وحين أوفدت اليمن القاضي «حسين الكبسي» لحضور الجلسات التمهيدية لإنشاء جامعة الدول العربية عام 1944 حرص الأستاذ البنا علي الاتصال به بشكل دائم، كذلك اتصل طلاب الإخوان بناء علي تعليمات محددة من المركز العام للجماعة بالطلاب اليمنيين الذين وفدوا لتلقي العلم بالقاهرة. ويقول الأستاذ محمود عبد الحليم الذي وصفناه دوما بأنه المؤرخ المعتمد للجماعة «أستطيع أن أقرر أن فكرة إعداد الشعب اليمني للثورة قد نبتت فى المركز العام للإخوان» ويقول أحد الباحثين فى حركة المعارضة اليمنية «ومن خلال الطلاب اليمنيين تحققت علاقة الأخوان بحركة المعارضة اليمنية، وترجع بداية هذه العلاقة إلى أواخر الثلاثينيات وقد التقي حسن البنا فى أحد مواسم الحج بالمعارض اليمني «عبد الله الشماحي»، وتلازما طوال رحلة الحج فى مكة والمدينة، واتفقا علي التعاون بين الإخوان والمنظمات الدينية فى اليمن، ووعده البنا بمساعدة الإخوان للعمل الوطني فى اليمن» لكن الأستاذ البنا كعادته دوما يناور بين الأطراف جميعا فعندما حضر إلى القاهرة حفيد الإمام يحيي الأمير «سيف الإسلام البدر» للعلاج، وثق البنا علاقته به، ودعاه وعدد من طلاب الإخوان لقضاء يوم فى الفيوم. وحرص البنا علي أن يصحبه طوال هذه العلاقة الحميمة مع الأمير اليمني، المجاهد الجزائري «الفضيل الورتلاني»، فلما تيقن من توثق العلاقة بينهما قرر أن يقيم موضع قدم إخواني فى اليمن فسافر الورتلاني يرافقه د. أحمد فخري كممثلين لشركة محمد سالم (أحد الرأسماليين الإخوان وزوج السيدة زينب الغزالي) وكان ذلك فى إبريل . 1947 وتنشر جريدة الإخوان تقريراً عن الوضع فى اليمن بمقدمة حرص البنا علي توقيعها بنفسه وقال فيها «إن العالم العربي والإسلامي كله رجاء فى أن يسرع جلالة الإمام- مؤيدا مشكوراً- بإقرار النواحي الإصلاحية الإدارية والاقتصادية والاجتماعية التي تنهض بشعبه حتي لا يدع ثغرة ينفذ منها الاستعمار الأجنبي» ونشط الورتلاني تحت غطاء النشاط التجاري لشركة محمد سالم متنقلا فى أرجاء اليمن دون أن يثير أى شكوك لدى الإمام، واستطاع الربط بين المعارضة اليمنية داخل وخارج اليمن وجماعة الإخوان وتقول دراسة أكاديمية يمنية «أن رسل الثورة راحت تحمل المعلومات إلى الثوار فى عدن وإلى البنا فى القاهرة، وانتهت الاتصالات بالموافقة علي أن يكون «عبد الله الوزير» إماماً دستورياً لليمن، وكان البنا يري أن اليمن أنسب بلد عربي لتحقيق قيام دولته الدينية» وقد نجح الورتلاني فى جمع كل المعارضين حول وثيقة أسميت «الميثاق الوطني المقدس» وقد أعلنت فى 14 سبتمبر 1947، وأكد الكثيرون أنها قد وضعت وصيغت بمعرفة ومباركة حسن البنا. «وقد وضع الورتلاني والبنا هذه الوثيقة ليكون اليمن نواة لدولة الإسلام، إذ نشأت وتمت ثورتها علي مبادئ قرآنية» ويؤكد الدكتور «الصائدي» «لقد لعب الإخوان دوراً قيادياً بارزاً سواء فى تنشيط المعارضة وتوحيد أهدافها السياسية ، أو فى الإعداد للانقلاب وتنفيذه ودعمه» وتزهو جريدة الإخوان بأن الأمير إبراهيم بصفته قائد الحركة التحريرية فى اليمن ورئيس اللجنة السياسية للجمعية اليمانية الكبري فى عدن قد أرسل إلى فضيلة المرشد يبلغه بقرار تفويضه بصورة عامة وشاملة فى أن يتحدث باسم الجمعية أمام الجامعة العربية وأمام غيرها من سائر الهيئات والحكومة، كزعيم مطلق التصرف». كما أرسل سموه إلى أمين الجامعة العربية بذلك، «وأرسل فضيلة المرشد رداً علي الأمير يشكره علي هذه الثقة راجياً أن يعينه الله علي تحقيق هذه المهمة» لكن مناورات الشيخ البنا لا تنتهي. «فأحد قادة الثورة اتصل بريجنالد شامبيون الحاكم البريطاني لعدن ليبلغه بالثورة قبلها باسبوع بموعد قيامها وباسم قائدها، ويطلب منه دعمه، وطلب منه طائرة لتلقي منشورات الثورة من الجو» الشيخ البنا يمتلئ غرورا بنفسه وبمناوراته وبجيشه المسلح فيكشف أوراقاً ما كان لها أن تكشف، ويعلن أمام الملوك ومنهم فاروق أنه نجح فى أن يدبر انقلاباً ضد نظام ملكي فى بلد عربي، فيثير بذلك هواجس كثيرة، كانت ضمن أسباب الانقضاض عليه. وكثيراً ما يؤدي إدمان المناورة، واعتداد المناور بذكائه، إلى إفتراض الغباء فى الآخرين، ومن ثم إلى الخطأ.