هجرة المسيحيين انتهي قبل أيام أول مؤتمر يعقده الفاتيكان حول مسيحيي الشرق الذي ترأسه البابا بنديكت السادس عشر، وشارك في المؤتمر جميع بطاركة الكاثوليك في الشرق وممثلون عن مختلف الكنائس الأخري من أرثوذوكسية وإنجيلية وسيريانية، كما شارك فيه إيراني شيعي وحاخام يهودي وعربي مسلم. وكانت هجرة مسيحيي الشرق الأوسط الواسعة في السنوات الأخيرة إلي كل من أمريكا واستراليا وكندا وأمريكا الجنوبية هي الموضوع الرئيسي للمؤتمر. ويقول الباحث اللبناني محمد السماك وهو المسلم العربي الذي شارك في المؤتمر: إن المسيحيين كانوا يشكلون في القرن الماضي نحو عشرين في المائة من سكان الشرق الأوسط وقد تراجعت نسبتهم الآن إلي خمسة في المائة فقط. ويسوق «السماك» مثال فلسطين التي كان المسيحيون في بداية القرن العشرين يشكلون عشر السكان فيها أما الآن فأصبحوا أقل من 2% من السكان! وكان ذلك نتيجة للضغط الإسرائيلي وصعود القوي الإسلامية وعلي رأسها حماس. وإذا كانت هجرة المسيحيين تتم بهدوء وبالتدريج، فإن المشاريع السياسية الاستعمارية والتي تشارك فيها نظم الحكم بنشاط بوعي أو بدونه، تتطلع بل وتخطط لإعادة توزيع السكان في الوطن العربي وفقا لانتماءاتهم العرقية والدينية أو حتي المذهبية، وما جري في العراق وسطا وشمالا وجنوبا منذ الاحتلال الأمريكي له يدلنا علي ذلك بوضوح ما بعده وضوح، كذلك هو الدفع في اتجاه فصل جنوب السودان عن شماله في الاستفتاء المزمع إجراؤه بداية العام القادم، وهو يتم أيضا علي أساس ديني، مسلمون في الشمال ومسيحيون ووثنيون في الجنوب، ويتحمل المشروع الإسلامي في الخرطوم الذي أطلقته الجبهة القومية متحالفة مع الانقلاب العسكري بقيادة البشير عام 1989 مسئولية هذا التمزق في وحدة البلاد التي سيجري تدميرها علي أساس ديني. وسبق للشيخ «حسن الترابي» أن قال إن سودانا صغيرا إسلاميا في الشمال هو أفضل من سودان كبير موحد وعلماني. وتشكل هجرة المسيحيين من بلدان الوطن العربي سندا وأي سند للمشروع الديني الصهيوني الذي يدعو للاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وعبر عنه وزير الخارجية «ليبرمان» حين قال «إن التسوية القادمة لابد أن تتأسس علي تبادل الأرض والسكان»، بما يعني «تطهيرا» عرقيا ودينيا ضد السكان العرب من المسيحيين والمسلمين حتي تبقي إسرائيل دولة يهودية نقية في زعمهم. أما الجماعات الإسلامية في الوطن العربي التي تعتبر الصراع مع إسرائيل صراعا دينيا بين اليهودية والإسلام، فإنها تصب المياه في طاحونة المشروع العنصري الإسرائيلي وتطلق الرياح في أشرعته، بينما تؤدي ممارساتها السياسية والثقافية إلي خنق التنوع الديني الذي تميزت به المنطقة عبر تاريخها، وكان ومايزال عنصرا مغذيا للثراء الثقافي والحضاري الذي ميز هذه المنطقة عبر العصور منذ ظهرت فيها الديانات الثلاث. ولا نستطيع أن نتغاضي عن تداعيات نظم الاستبداد والقمع في المنطقة التي جعلت من الدين ملاذا لشعوبها، بينما دفعت الأزمة العامة بقوي التطرف والانغلاق إلي مقدمة المشهد والتي استهدفت المختلفين دينيا ودعت إلي معاداتهم واستبعادهم من المشترك الوطني وهي تدعو لدول دينية. وأكدت توصيات مؤتمر الفاتيكان علي الحوار من أجل تنقية الذاكرة والغفران المتبادل عن الماضي والبحث عن مستقبل أفضل، والقبول المتبادل رغم الاختلاف دفاعا عن الكرامة والحرية والعدالة. وقالت التوصيات أيضا إن هناك قاعدة مشتركة للقيم بين الأديان كافة يمكن الالتقاء حولها شرط عدم الخلط بين الدين والسياسة، وهو ما سبق أن وصفه الفاتيكان بالعلمانية الإيجابية، ذلك أن للعيش المشترك متطلبات أساسية من ضمنها بل علي رأسها حياد الدولة بين الديانات وسيادة القانون والحقوق مع ممارسات تربوية وثقافية موجهة لصالح المواطنة وقيم العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. لكن هذا التصور ذا الطابع الاستراتيجي لا يجوز أن يؤجل ما هو مطلوب وضروري وعاجل لوقف هجرة المسيحيين بدءا بتنظيم مؤتمر وطني جامع لبحث القضية المنذرة بالخطر.