مع انتشار الحداثة، وتطورها، ورسوخ مفاهيم الدولة الحديثة أصبحت مرجعية المواطنة هي الأساس الذي يجتمع الناس حوله، ويتظللون بظله، ويحتمون به لتحقيق العدالة والمساواة بينهم من أي مذهب أو إقليم أو إثنية كانوا. وبهذا أعطيت حرية الاعتقاد لكل مواطن وضمن النظام السياسي للمواطن حقوقه كاملة كإنسان ومواطن، وتم التعامل مع أفراد المجتمع جميعهم كمتساوين بالحقوق والواجبات، وتوافق الجميع علي معايير الدولة الحديثة وضرورات تطبيقها كالحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، والديمقراطية، وفصل السلطات وغيرها. منذ استقلال البلدان العربية، بدأت محاولات خجولة لتطوير الدولة إلي دولة حديثة، وإعطاء مرجعية المواطنة الدور الذي تستحقه، وتحققت بعض النجاحات في بعض البلدان العربية، والإخفاقات في معظمها، ومنذ هزيمة يونيو 1967 بدأت النكسة الحقيقية في الموقف من الدولة الحديثة ومن معاييرها في البلدان العربية، فانتشرت موجة من الأفكار الظلامية ذات المواقف المتخلفة من الدولة والمجتمع والسياسة والاقتصاد وغيرها، فأخذت المجتمعات العربية تعود إلي مرجعيات ما قبل الدولة كالمرجعيات الطائفية والإثنية والإقليمية والمذهبية وتعمدها تقسيم طوائفها وإثنياتها ومذاهبها مواقع السلطة بين المنتمين إلي هذه الفئات بما سمي بالمحاصصة وهذه مرجعيات قائمة منذ مئات السنين ولها هيمنتها المشهودة علي المجتمع، وتحل محل مرجعية المواطنة وتسهيل الظروف لإحيائها. وتصر علي استمرار هذه المرجعيات المتخلفة، وساهمت التيارات المتأسلمة السلفية، وأولئك الذين يريدون فرض الإسلام السياسي علي الدولة تحت شعار ما يسمي (بالإسلام هو الحل) و(الإسلام دين ودولة) مما حرّض المشاعر المذهبية والطائفية وساعد علي نمو المشاعر الإثنية والإقليمية (أي العودة لهذه المرجعيات)، باعتبار أن الجميع لم يطبق قبلاً مرجعية المواطنة، ولم تتحقق المساواة بينهم، وقد أخذت تنمو هذه القيم المتخلفة في العقود الأخيرة، والمفاهيم السياسية الفاسدة خاصة والإثنية أيضاً، وبرز بشكل واضح الانتماء الطائفي وألغي التقسيم الأفقي للمجتمع، وأصبح تقسيماً عمودياً، يشتت التحالفات الاجتماعية والاقتصادية ويلغي العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، وأصبح الانتماء الثانوي هذا هو رابط المواطن بوطنه، وهكذا تلوث النضال الشعبي، وتحولت الدولة إلي ميدان لسباق الطوائف وتزاحمها وتضادها، ولم يعد النسيج الاجتماعي منسجماً وموحداً، وأصيب الانتماء الوطني بالهشاشة لحساب الانتماءات الأخري. كانت سورية من أوائل الدول العربية التي أسست للعمل بمرجعية المواطنة وتبنيها، وشهد العقد الأول من الاستقلال سيادة هذه المرجعية، وكان المواطن السوري يخجل أن يقدم عليها انتماءه الطائفي أو المذهبي أو الإثني دون أن يخضعه لانتمائه الوطني العام، فقد كان مثلاً في المراحل الأولي من استقلال سورية لايأبه أحد للمحاصصة الطائفية ولا يسأل أحد عن طائفة الآخر، وقد كان رئيس مجلس النواب مسيحيا في فترة ما، وكان أكثر من رئيس للدولة من الإثنية الكردية وهكذا.. ولكن النكسات التي حصلت خلال تطور سورية اللاحق والشعارات الأيديولوجية التي لامضمون لها، أعادت الانتماء للمرجعيات المتخلفة مرة أخري، وصرنا نشهد السوري يسأل أول ما يسأل عن المرجعية الثانوية لمحدثه من المواطنين، ومنذ انطلاقة الثورة (2011) حاول النظام السياسي السوري أن يلعب علي المرجعيات الطائفية المذهبية، فحرض بعض الطوائف ضد الطوائف الأخري بالقول والممارسة. ثم ما لبث أن تحالف مع إيران وتحالفت معه، لأسباب طائفية أيضاً وتمهيداً لوضع الطائفية في خدمة الدولة الإيرانية، وأخيراً استدعي النظام السوري مقاتلي حزب الله اللبناني ومقاتلين عراقيين شكلوا (لواء أبي العباس) وأشركهم جميعاً في قمع ثورة الشعب السوري، مما رفع درجات الحقد الطائفي إلي أقصي الحدود، وسواءً كان استنجاده بهذه القوي لأسباب طائفية أو لمساعدته في حفظ استمرار النظام بعد فشله في القضاء علي الثورة فإن النتيجة واحدة، إذ بلغت الأحقاد مبلغها في نفوس الشعب السوري واستكملت شروط عديدة أو جديدة لقيام حرب أهلية في سورية، وفي المحصلة نحي السوريون مرجعية المواطنة جانباً، وربما أنهي النظام هذه المرجعية أو كاد إلا باللفظيات والخطابات الرسمية، وبدأت ممارساته الطائفية لاتخفي علي المراقب، وربما كان الشعب السوري بسبب ذلك يحتاج لعشرات السنين القادمة للتخلص من اللوثة الطائفية، وإعادة مرجعية المواطنة كي تحتل مكانها وتؤدي وظيفتها.