دفعت المظاهرات الشعبية العارمة التي اجتاحت المدن البلغارية في 19 فبراير الماضي ،وحاصرت مقر البرلمان بوسط العاصمة صوفيا احتجاجا علي ممارسات وسياسات حزب اليمين المحافظ"مواطنين من أجل التنمية الأوربية " الحاكم منذ أكتوبر 2009 ،في رفع أسعار الكهرباء وتضخمها وكذلك فواتير التدفئة وتدني الرواتب والمعاشات في ظل تجميدها المستمر وسياسات التقشف المتواصلة علي وتيرة الارتفاع الحاد لأسعار السلع والمستلزمات الاستهلاكية ومع ارتفاع حاد بنسبة البطالة التي بلغت "رسميا" لأكثر من 13 % وانعدام فرص عمل ،علي خلفية عودة العمالة الموسمية البلغارية من أراضي دول الاتحاد الأوربي نتيجة الأزمات المالية والاقتصادية بأوربا من جراء سياسات اليمين التقشفية والتخفيض الحاد للانفاقات الحكومية . وهو ما أدي لاجبار حكومة الحزب الحاكم المذكور لتقديم استقالته قبل شهور من الموعد العادي لاجراء انتخابات دورية أكتوبر 2013 ،مما عجل بانتخابات برلمانية مبكرة أجريت في 12 مايو الماضي ،لم يستطع المحافظون وحزبهم في الحصول علي أغلبية بها تمكنهم من تشكيل حكومة جديدة لولايةثانية ،بل خسروا بنسبة 6 % من الأصوات !!،مما أفرز تداعيات لمزيد من الاحتقان الشعبي والاستقطاب السياسي بالمجتمع ،(علي خلفية ما شاب هذه الانتخابات من عوار وعمليات تزييف وشراء أصوات وظبط الأجهزة الأمنية بالتنسيق مع النيابة العامة لأكثر من 350 ألف بطاقة انتخابية معدة للتوزيع بالمطبعة المكلفة بالطباعة والتي يمتلكها رجل أعمال مقرب من دوائر الحزب الحاكم -برغم مخالفة القانون وتعليمات اللجنة المركزية العامة المشرفة علي الانتخابات – ولا تزال التحقيقات جارية !!) فقد حصل حزب المحافظين اليميني المذكور علي 97 مقعدا برلمانيا ،الحزب الاشتراكي 83 مقعدا، حركة الحقوق والحريات 37 مقعدا، وحزب الهجوم القومي علي 23 مقعدا وذلك من اجمالي تعداد برلمان بلغاريا 240 نائبا، مع اندثار وتلاشي أحزاب تقليدية يمينية لم تستطع تجاوز النسبة الشرطة 4 % للالتحاق بالبرلمان الجديد. لم تعجب نتيجة الانتخابات حزب المحافظين ورفضه لها مع الطعن فيها بالمحكمة الدستورية التي حكمت مؤخرا بقانونيتها ودستوريتها !وفي ظل الرفض القاطع لباقي الكتل البرلمانية تعاونها معه،لم يكن أمامه سوي الاعلان عن الدعوة لانتخابات أخري مبكرة مع تعديل بقانون الانتخابات ،ومقاطعته للجلسات البرلمانية وعدم الاشتراك باللجان البرلمانية المتخصصة مع التحريض المتواصل لقواعده بالتحالف مع باقي تيارات اليمين المشرذمة في العمل علي اسقاط الحكومة التي تشكلت كتحالف برلماني اضطراري (برغم التباين به وعداء القوميين للأتراك كنتيجة من مساوئ الاحتلال العثماني خمسة قرون لبلغاريا )من بقية الكتل وبموجب التكليف الدستوري للاشتراكيين كثاني كتلة برلمانية تشكلت الحكومة الحالية برئاسة "بلامن أوريشاريسكي " الخبير الاقتصادي الليبرالي كرئيس للوزراء مع اسناد حقائب وزارية سيادية كالخارجية والدفاع والداخلية والاقتصاد والمالية لكوادر اشتراكية واكتفاء الأقلية التركية بحقيبة وزارة العمل والتأمينات الاجتماعية وابتعاد القوميين عن ذلك التشكيل للحساسية المذكورة .. السيناريوهات المطروحة مما لاشك فية بأن التيارات اليمينية تعمل علي توظيف حالة السخط والاحتقان بالشارع في عمليات التمويل والتنظيم والتعبئة للاطاحة بالحكومة واجراء انتخابات مبكرة من ناحية ومن أخري ولعدم كشف المستور بملفات الفساد والرشوة وسوء استخدام السلطة بملفات الحكم السابق علي أرضية سياسات الانفتاح الاقتصادي المستمرة منذ 23 سنة وما أفرزته كنتيجة لتكدس الثروة بأيادي حفنة محدودة علي حساب زيادة معدلات الفقر والبطالة وعمليات الهجرة الداخلية والخارجية الواسعة لأبناء المجتمع بحثا عن لقمة العيش ولمستقبل أفضل . هذه الانتخابات تسعي لها أيضا دوائر أوربية محافظة بالتزامن مع موعد انتخابات نواب بلغار للالتحاق بالبرلمان الأوربي بشهر مايو العام القادم في توقيت واحد،وهو ما يرفضه الاشتراكيون الأوربيون وكتلتهم بالبرلمان الأوربي ،وهو ما عكسته زيارة مارتين شولتز رئيس البرلمان الأوربي لصوفيا مؤخرا وتأييده القاطع للاشتراكيين البلغار وزعيمهم سيرجي ستانيشيف – رئيس أممية الأحزاب الاشتراكية الأوربية الديمقراطية ! لكن تيارات اليمين غير مستعدة للانتظار حتي ذلك التاريخ وتسعي جاهدة بالتعاون مع مؤسسة الرئاسة في خطوات مشتركة خريف العام الجاري وقبل قدوم شتاء وثليج قادم قد يتبخر من جراء سخونة ولهيب ارتفاع مستويات الحياة المعيشية ،بالمقابل تسعي قاعدة التحالف الحكومي وعموده الفقري من الاشتراكيين في اتباع سياسات الفضح الكامل لولاية اليمين المنصرمة التي تتكشف مسلسلاتها في بعض أجهزة الاعلام وأروقة النيابة العامة لقيادات منه في الفساد والرشاوي والارتباط العضوي بعمليات الجريمة المنظمة وقنوات التهريب التي طالت قيادات أمنية ! ويبقي العامل الخارجي في مواقف كل من واشنطن الصامتة والتي تطالب فقط شأنها شأن المفوضية الأوربية باتباع القواعد الديمقراطية والعلنية والشفافية في اتخاذ القرار الحكومي ،علي النقيض يبقي موقف موسكو المترقب والحذر ،حيث فقدت مواقع استثمارية واقتصادية لها طوال حكم المحافظين لعل أبرزها محطة الطاقة النووية الجديدة أيتس بيلينة ،والخسارة الجمة بالجانب المقابل للشركات الصغيرة المتوسطة البلغارية (التي أفلس جزء كبير منها في المنافسة غير العادلة مع الشركات الاحتكارية الكبيرة المقربة من دوائر الحكم ) بأسواق موسكو وغيرها بالفيدرالية الروسية ،وستشهد الأيام القادم المزيد من الاحتقان والاستقطاب ،مع كشف خطط لمحاولات جر بلغاريا لسيناريو عام 1997 باقتحام البرلمان ومحاولة حرقه لاسقاط حكومة الاشتراكيين وقتذاك !!!