إطلاق الوعود.. بأن كل من سيبقي في رابعة العدوية سيحصل في أول أيام العيد علي كحكة.. معناه أن يبيع المواطن بلده.. وكرامته.. في مقابل.. كحكة! سرقت منطقة رابعة العدوية.. الأضواء هذا العام من ميدان سيدنا الحسين وشوارع وحواري ومقاهي الحي العريق الذي كان يزدحم في مثل هذه الأيام من شهر رمضان المعظم بالأعداد الغفيرة من القرويين الذين يعيشون في العاصمة.. علاوة علي عدد لا بأس به من السياح.. وطالبات الجامعة الأمريكية اللاتي ينتشرن في سرادق المطرب الشعبي محمد طه.. فيما كان يسمي «مواويل.. بارتي» للاستماع إلي محمد طه.. بطربوشه الذي يميل للخلف وجلبابه الفضفاض.. وخلفه التخت المكون من مجموعة من أرباب الجلابيب الذين تتدلي من أفواههم الآلات الموسيقية. هذا أرغول.. وهذه سلامية.. وتلك ربابة وعندما يصعد محمد طه بطربوشه الأحمر وكوفيته الحرير تصفق جماهير السرادق.. وتصفر.. وتبدي كلمات الاستحسان.. وتضرب الفرقة الموسيقية التابعة له.. سلام التحية.. بينما عيون السياح الأجانب الزرقاء.. لا تكاد تصدق ما تري.. عندما تتأمل المخلوقات التي رأتها علي جدران المتاحف والآثار الفرعونية صباحا.. تتحرك أمامها في المساء «لايف» وعلي الهواء المشحون برائحة الشواء.. والشيشة.. وكأن الحياة تدب في الفراعنة في رمضان! كان ميدان الحسين يعج ويضج في الشهر الفضيل.. حيث يتصاعد الصخب تارة.. ويخف تارة أخري.. وتسمع الضحكات العالية والأصوات المسبحة بحمد الله.. وتلك التي ترد التحية العابرة بأحسن منها وبأصوات عالية يسمعها سكان العتبة! وكانت مقاهي الحسين.. تشغي بالرواد حتي أذان الفجر.. يحتسون الشاي الأحمر والأخضر.. ويدخنون الشيشة ويلقون علي الأرض بورق «البفرة».. ويتحرك بينهم الجرسون في غبطة طفولية.. ورشاقة راقص الباليه.. ويمضون وقتهم ما بين الوضوء والصلاة.. والاستئناس بصحبة الآلاف الذين لا يحلو لهم السهر في رمضان.. إلا في أجواء الصحبة والونسة.. والانشراح الجماعي.. ووحدة النسيج الوطني. كانت لقاءات ميدان الحسين في رمضان.. هي لقاءات محبة.. لا تعرف القتل وشق البطون.. ولا الندالة المفرطة التي لا يأخذ الخصم بين أيدي أصحابها غلوة. لم يعرف حي الحسين في تاريخه الطويل.. جرائم القتل باسم الشريعة في رمضان.. ولا التعذيب باسم الإسلام ولا القيادات السياسية التي تستثمر الإسلام لتحقيق أهداف دنيوية رخيصة.. وهي تدعو أنصارها من العناصر المأجورة لقطع الطرق.. واغتيال رجال الشرطة.. ورشق المؤسسات العسكرية الوطنية بالحجارة. كان حي الحسين في رمضان.. هو أعظم شهادة نقدمها للعالم.. حول الوجه الحقيقي للإسلام.. وحول عظمة هذا الشعب النبيل الذي ننتمي إليه وحول احترامه لأصحاب كل المعتقدات والمذاهب والملل.. بلا تفرقة ولا تمييز. مئات الآلاف من المصريين والأجانب الذين يفدون علي حي الحسين في رمضان.. وفي كل ليلة من ليالي الشهر الفضيل.. كانوا يقدمون الصورة الصحيحة للإسلام.. وأنه دين سلام وتعايش ومحبة.. ولا يعرف الإرهاب، ولا أحداث الخروم في جسد الوطن. كانت لقاءات حي الحسين في رمضان.. هي لقاءات فردية.. اختيارية.. لا تعتمد علي الحشد.. ولا علي موائد الرحمن ولا علي سحب بطاقات الرقم القومي.. لإرغام الحضور علي استمرار الحضور.. ولا تعتمد علي إقامة الأفران لإنتاج كحك العيد.. مع إطلاق الوعود بالإشارة إلي أن كل من سيبقي في الميدان سيحصل في أول أيام العيد علي كحكة.. أي أن يبيع المواطن بلده في مقابل.. كحكة! الآن.. تغيرت الأحوال.. وسبحان مغير الأحوال.. وتراجعت هذه الصورة الإنسانية الرائعة التي انفردنا بها لمئات السنين.. واختفي الحب بين شرائحنا الوطنية وأصبحت منطقة رابعة العدوية.. هي ملتقي الغالبية العظمي من القرويين الذين يعيشون في العاصمة. والجديد في الموضوع أن هذه الحشود لم تصل لمنطقة رابعة العدوية من تلقاء نفسها ووفقا لإرادتها الحرة.. وإنما وفق توفير وسائل الجذب وإغراءات.. موائد الرحمن.. وكحك العيد.. والمكافآت النقدية.. وأوتوبيسات النقل والإعاشة.. والعجول والوجبات. ناهيك عن الخطابات التي تحمل الإشارات الدينية.. وتضع السامعين في أدني درجات الحماقة والغباء.. عندما يتحدث أحد الوعاظ من أعلي المنصة المقابلة لمسجد رابعة العدوية عن رؤيا شوهد فيها «جبريل» عليه السلام في مسجد رابعة العدوية (!!) وهو يصلي مع المعتصمين.. وعندما يتهافت عليه المعتصمون مكبرين ومهللين عندما قال إنه رأي جبريل وهو يصلي ساجدا. وقال الواعظ بجسارة يحسد عليها.. إن سكان المدينةالمنورة يقولون إنهم شاهدوا «جبريل» في مسجد رابعة العدوية!! مصليا في مسجد رابعة العدوية. وإذا بهذا الكلام يثير جموع الحشود ويدفعهم للتكبير والفرحة التي أدت بدورها لأن يضيف الواعظ الرشيد قوله.. - اللهم انصر عبدك محمد مرسي.. ووفقه لما تحبه وترضاه! كلام عجيب يكشف سلسلة من الحقائق: أولها: أن الواعظ الرشيد يعلم أنه يخاطب مجموعة كبيرة.. ممن يطلق عليهم الصديق أحمد عكاشة.. المرضي بالضلال الديني.. وهي حالة تعبر عن اعتقاد خاطئ.. غير قابل للإقناع أو الحوار.. كأن يقول لك شخص ما إنه المهدي المنتظر.. أو أن يتصور شخص آخر أن زوجته تخونه.. مع شخص مات منذ سنوات طويلة. ثانيها: أن الواعظ الذي فقد رشده.. لا يخاطب الناس في شئون دينهم.. لوجه الله.. وإنما هو يحدثهم في قضية سياسية تتعلق بقضية رئيس جمهورية سابق.. متهم في «تخابر» مع جهات أجنبية.. يهدد الأمن القومي للوطن. ثالثا: أن أصوات التكبير والتهليل التي أعقبت حديث الواعظ عن صلاة جبريل في رابعة العدوية.. وليس في السيدة أو سيدنا الحسين تشير إلي العينة المنتقاه بعناية شديدة من جانب قادة الحشود وفي مقدمتهم صفوت حجازي ومحمد البلتاجي. وهي حالة تدعونا للتساؤل: هل كان من المتصور.. ولو في أشد حالات الخيال الجامح.. حدوث مثل هذا الهراء.. بين رواد المقاهي.. في العصر الذهبي لحي الحسين؟ أما أطرف مشهد علي الساحة.. منذ 30 يونيو.. فهو مشهد ظهور مرشد جماعة الإخوان المسلمين فوق المنصة أمام مسجد رابعة العدوية.. وحوله فريق حراسته.. المكون من خمسة أفراد من جماعة حماس.. والقيادي محمد البلتاجي والقيادي صفوت حجازي وكبار قادة الجماعة.. والكل يتحدث عن انقلاب عسكري قام به الجيش.. وهو كلام لا يختلف كثيرا عن حديث الواعظ الأهطل عن ظهور جبريل في رابعة العدوية لسبب بسيط.. هو أن وجود قادة الإخوان من المتهمين بالتخابر والتجسس والتحريض علي العنف وارتكاب المذابح.. علي الساحة حتي ساعة كتابة هذه السطور.. هو الدليل الواضح علي أن ما جري ليس انقلابا.. ولا يحزنون.. ويعرف قادة جماعة الإخوان هذه الحقيقة.. قبل غيرهم.. لأنهم أول من يعرف أنه لو أن ما حدث كان انقلابا لأصبحوا جميعا وراء القضبان.. يحملون الأسماء النسائية التي يختارها لهم قائد السجن.. صاحب الكلمة الأولي والأخيرة في مناداة قادتهم بأسماء يعرفونها جيدا مثل «قطقوطة» و«فطومة».. و«رحاب».. وهي أسماء حقيقية حملها قادة جماعة الإخوان.. في السجون.. بعد فشل محاولة اغتيال الزعيم جمال عبدالناصر. أين الانقلاب بينما لايزال محمد البلتاجي يتحدث عن اتصالات سرية تجري بين جماعة الإخوان والجيش من خلال وسطاء أجانب (!!) مشيرا إلي أنه في حالة عودة محمد مرسي إلي منصبه!! وإعادة مجلس الشوري!! ودستور الغرياني!! فإن الجماعة ستوافق علي إجراء انتخابات رئاسية مبكرة (!!) وستمنح العفو لجميع من قاموا بالانقلاب (!!). وهو كلام لا يمكن أن يصدر من عاقل واحد.. في ظل انقلاب عسكري.. وما أدراك ما الانقلاب العسكري. لو أن ما حدث في مصر هو انقلاب عسكري.. لما وقعت الاشتباكات ومحاولة اقتحام دار الحرس الجمهوري.. ولما استطاع محمد البلتاجي وصفوت حجازي مخاطبة ضباط حراسة الحرس الجمهوري بكل هذه الندية..!! لو أن ما حدث كان انقلابا.. لكان من المستحيل تحرك قادة الإخوان بغير الملابس النسائية والنقاب.. وحمل الأطفال علي الأكتاف.. مع هز الثنايا والأعطاف. وكلها وقائع يعرفها قادة جماعة الإخوان جيدا.. عندما لم يكن الواحد منهم يتجاسر علي الحديث عن شروط يفرضها علي قادة الانقلاب من أجل الخروج الآمن. الانقلابات العسكرية.. لا تصدر أحكام الإعدام.. لأن الأوامر في هذه الحالة كانت تتكون من 4 كلمات فقط هي: «اضربوه حتي تكسير العظام»! وبعد ذلك يأتي تقرير الطبيب الشرعي يقول إنه «مات قبل شد الحبل»! وقفت أتأمل المشهد في رابعة العدوية من بعيد.. وأجدني أمام شعب آخر لا ينتمي للشعب الذي كان يمضي أمسيات رمضان في سيدنا الحسين. في رابعة العدوية.. نحن أمام شعب آخر.. وثقافة مختلفة تتسم بالعدوانية.. وكراهية الآخر والشك في نواياه. نحن أمام جماعة تنحر الذبائح في الشوارع بقسوة مفرطة وتستخدم الأساليب البدائية في كل حركة تصدر عنها.. وتسمع أصوات صراخ الباعة الجائلين.. الذين يتحركون بين المصلين.. وروائح العفونة تصدر من أجساد المنتقبات اللاتي يتعرضن للتحرش أثناء صلاة التراويح.. وفقا لما ذكرته إحداهن. في هذه المنطقة التي كانت تتسم بالنظافة والهدوء النسبيين.. يتحرك الآلاف من المعتصمين.. بلا أماكن عصرية لقضاء الحاجة.. وبلا دورات مياه.. ولا حتي السواتر الطبيعية التي تستخدمها الشعوب التي تعيش علي الفطرة. وفي هذه الأجواء يدعو صفوت حجازي مؤيدي الرئيس المجرم المعزول للصمود في رابعة العدوية وإنشاء أفران لصنع كحك العيد.. تعبيرا عن الصمود.. والاستمرار.. في الاعتصام.. حتي يعود كل منهم من الميدان.. وفي فمه كحكة!