والحقيقة أنه لا يمكن الحديث عن محاولة النبيل عباس حليم لتأسيس حزب عمالي دون أن نتحدث عن عصام الدين حفني ناصف الذي كان المنظم والمفكر لهذا الحزب. وعصام الدين ابن الاديب الوطني والمناضل حفني بك ناصف والذي هزت أشعاره وجدان المصريين في زمن شديد الصعوبة من تحكم الاحتلال وأعوانه. وعصام خاض معارك الوطنية طالبا ومؤسسا لاتحاد طلاب يساريين في أوروبا واجه به سعد زغلول كلما حاول التهادن واشتهر بأنه وقف في احتفال مصري بباريس وصاح في سعد زغلول نحن نسحب منك الثقة فرد سعد غاضبا أنا وكيل عن الأمة وليس عن حفنة من الطلاب وابتداء من 1927 حاول عصام ناصف تأسيس حزب عمالي . فأعلن عن تأسيس الحزب الاشتراكي ثم حزب للعمال والفلاحين ولم ينجح ثم أصدر مجلة “روح العصر” ثم أصدر عددا من البيانات موقعة باسم الكتلة الاشتراكية جاء في واحد منها التي خاطب فيها العمال قائلا “يا عمال مصر لقد ظللتم متفرقين لا يقيم لكم أحد وزنا ولا يخطر ببال الحكومة أن تجيب لكم مطلبا، فلم أخذتم في تكوين النقابات رغم كل معاكسة، سعي البعض لاستغلالكم لتعضيد سياسية يجدر أن يبتعد العمال عنها، فدعوا هذا التواكل ولا تجعلوا انفسكم مطية لغيركم” (ملف القضية 344 كلي 1931) أما “روح العصر” فقد صدر عدد أول مايو 1933 منها، وفي صفحته الأولي صورة تستغرق الصفحة بأكملها لكارل ماركس وتحتها “يا عمال العالم اتحدوا” وقد أصدر عصام عديدا من الكتب منها “التجديد الاجتماعي”- المسألة الاشتراكية”- “مبادئ الاشتراكية- حكومة الشعب أم الديكتاتورية- مترجم- أبحاث في شئون العمال والفلاحين.. اخفاق الفاشية.. وبعد جولة كاملة ألقي عصام ناصف رجاله ليتعاون مع النبيل عباس حليم ولا يخفي عصام مرارته من ذلك فيقول “كنت مضطرا للذهاب إلي النبيل عباس حليم فقد كان جميع العمال تحت زعامته، وهو رجل مخلص حسن النية ولكنه قليل الخبرة، وكان قد ترك الأمر في أيدي عدد من العمال معظمهم غير مخلص للحركة وإنما كان انضمامهم للحركة لاستغلالها والاستفادة منها أدبيا وماديا، وكان البعض منهم يختلس ما يصل إلي يديه من أموال العمال المساكين ، وكان الكثيرون منهم يتصلون بالأمن وهم في المجمل من الجهلة والادعياء” ويبدأ عصام عمله مع النبيل معلنا رفضه لمشروع النبيل بتأسيس اتحاد عمال ويعلن “اقترحت علي النبيل عباس حليم أن يؤسس حزبا للعمال إلي جانب اتحاد العمال لأن للحزب وظيفة غير وظيفة الاتحاد وقد وافق النبيل علي ودعاني إلي وضع مبادئ الحزب” (اللواء- 21-8-1937) وهنا تقوم الدنيا ولم تقعد ويكون أكثر المهاجمين هو حزب الوفد الذي صاحت صحفه صارخة بأن الدستور لا يسمح للأمراء بالاشتغال بالسياسة، ويسافر عباس حليم إلي لندن ليصرح من هناك بأنه سيكتفي علي الأرجح بتكوين اتحاد عمال”(الأهرام 11-9-1937) ويرد عصام ردا عاصفا ضد الوفد وزعامته ثم يقول “فإذا فرضنا- وهذا ما نكتبه علي سبيل الجدل ولا نعتقده قط أن النبيل عباس حليم رأي أن يتخلي عن الحركة وأن يكتفي بإعادة اتحاد النقابات فهل معني ذلك أن العمال سيمتنعون عن إنشاء حزب العمال؟ “كلا وألف كلا فالعمال سينشئون حزب العمال لا لأن النبيل عاس حليم يري ذلك فقط وإنما لأنهم يرون ذلك أيضا. ونحن الآن نعلن أننا مصرون علي وجوب إنشاء حزب العمال في أقرب فرصة، وأننا ماضون في الدعاية لتكوين الحزب، وأننا لن نتراجع عن عملنا هذا مهما غضب أعداء الحركة، ومهما تراجع أصحاب القلوب الخائرة ولن تمضي بضعة أسابيع حتي نزف إلي العالم بشري تكوين حزب العمال المصري” (جريدة شبرا- 9-9-1937) ولكن الحملة علي الحزب تستمر وتكتب بنت الشاطئ محذرة من أن يتم نقل تطبيق حرفي لنظم بلاد ليس لنا مثل ظروفها. فمثلا لا يمكن لنا أن نطالب بزيادة أجور العمال لأنها تعوق قدرة الصناعة المصرية علي منافسة البضائع الاجنبية” (الاهرام 11-9-1937) ويرد عصام ردا عاصفا تحت عنوان “عدو جديد للعمال والفلاحين” يتهم فيه بنت الشاطئ بأنها تحاول إرضاء الجريدة التي تدفع لها أجر مقالاتها” (شبرا- 16-9-1937) ويسرع عصام بنشر مشروع برنامج حزب العمال موقعا بمئات القادة العماليين والنقابيين وقد حرص علي نشره قبل عودة عباس حليم من لندن ليضعه أمام الأمر الواقع ويتضمن البرنامج مطالب بإلغاء الامتيازات الأجنبية وتقليل الفوارق بين الطبقات وجعل التعليم الابتدائي مجانيا وكفالة الحريات ورفع مستوي المرأة وتحريم ملكية الأجانب للأراضي الزراعية. ويعود النبيل من لندن ليلقي تعنيفا من الملك ويصدر بيانا يقول فيه “أن عددا كبيرا من العمال البارزين في صفوف الحركة العمالية قد اجتمعوا مع بعض المثقفين المعروفين بثقافتهم العمالية وقرروا “إنشاء حزب العمال المصري- اعتماد المبادئ الاقتصادية والاجتماعية التي وضعها الاستاذ عصام حفني ناصف- الاستغناء عن برنامج سياسي للحزب نزولا علي نصيحة صاحب الجلالة الملك للعمال بعدم الاشتغال بالسياسة”. ويثور عصام غاضبا في مقال عنوانه “عمال قبل كل شيء- حذار من تضليل البرجوازية يقول فيه “ليس هناك أشد ضلالا ممن يزعم أن هناك نزاعا بين الوطنية المصرية والعاملين المصريين” ويقول “يجب علي العمال أن يرفضوا دعوة البرجوازية وأن يردوا عليها أننا نسعي لتحسين أحوال أغلبية الأمة من عمال المدن والأرياف وهذا أمر لا تعوق الحركة الاستقلالية. وإذا كان البرجوازيون يرون أن حركة العمال تعوق جهادهم نحو الاستقلال فليتخلوا للعمال عن الجهاد لتحرير الوطن وهم قادرون علي تحرير الوطن والعمال معا بينما البرجوازية مرتشية تساوم العدو علي حقوق بلادها وتضحي بالمصلحة الوطنية في سبيل مصالحها” (جريدة الشعاع- 23-5-1938).. ويغادر عصام ركب النبيل. وتبقي معلومة تاريخية مهمة وهي أن النبيل عباس حليم كان معتقلا في عام1953 في معتقلا روض الفرج وكان معه عدد من الشيوعيين وقام بتهريب “صفيحة منشار” داخل رغيف خبز افرنجي ضمن طعامه ليمكنهم من نشر مسامير تثبت حديد شباك بغرفة ينامون فيها، وبالفعل نجح ثمانية من كوادر حدتو في الهروب من المعتقل. .. وتمضي مسيرة الطبقة العاملة