تضرب الدولة المدنية الديمقراطية بجذورها إلي تاريخ بلاد اليونان القديم – خصوصا في مدينة أثينا – فيما عرف باسم «الدولة المدنية»، وارتبط ظهورها – فيما نري – بتراكم الرأسمال التجاري، حيث لعبت المدن اليونانية دورا أساسيا في تجارة عالم البحر الأبيض المتوسط، إذ أسفر هذا التراكم الرأسمالي عن ظهور طبقة وسطي عكست ثراءها الاقتصادي علي قيامها بدور سياسي، حيث شكلت حزبا يتكون من التجار وأصحاب السفن عرف باسم «حزب الشاطئ» الذي تبني الديمقراطية، في مواجهة «حزب السهل» الأرستقراطي الذي يتكون من كبار ملاك الأراضي الزراعية، لذلك صدق من قال بأن التجارة تنجب بورجوازية ديمقراطية مستنيرة، بينما يرتبط الإقطاع التسلطي الاستبدادي بحيازة الأرض. لم يكن «صولون» – أبوالديمقراطية الأثينية – إلا زعيما لحزب الشاطئ الذي واجه الحكام الطغاة – من أمثال بيزستراتوس – ونافح عن الحقوق المدنية للشعب الذي دافع بدوره عن تلك الحقوق. بلغت الديمقراطية الأثينية أوجها علي يد «كلايستينيز» الذي جدد دستور المدينة ووضع قوانين وأقام مؤسسات للحفاظ علي الديمقراطية وتحصينها ضد الطغاة، إذ أوكل إلي «الجمعية الشعبية» – Aballa – مهمة نفي من تتوسم فيه صفات الطغيان من الساسة. ونحن في غني عن الاسترسال في تبجيل الديمقراطية الأثينية، ونكتفي بالتنويه إلي أنها أهدت نظام «الديمقراطية المباشرة – الذي أشرنا إليه من قبل – إلي الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، هذا فضلا عن تقديم أنموذج يحتذي عن المؤسسات والمجالس الشعبية، ونظام الانتخاب، والاحتكام إلي القانون. الدولة القومية بديهي أن يجري إحياء التراث اليوناني في عصر النهضة الذي شهد بداية التحرر من اللاهوت الكنسي – نتيجة ظهور البورجوازية – ومن ثم إحياء الديمقراطية لتكون صورة الحكم في «الدولة القومية» التي كانت من أهم إنجازات عصر النهضة، وإذ شهدت الدولة القومية – في انجلتراوفرنسا وغيرها – نظام الحكم المطلق في صورة النظام الملكي، فقد أخذت البورجوازية النامية تحد من نفوذ الملوك، متسلحة في ذلك بالموروث الديمقراطي اليوناني والقانون المدني الروماني، وحسبنا نجاحها في إقرار مجلس للتشريع – في انجلترا – يضطلع كذلك بمهمة القضاء، وهو ما تمثل في وثيقة «العهد الأعظم» – ماجناكرتا – التاريخية التي حدت من سلطان الملوك بتدشين ما عرف – ولا يزال – ب «مجلس العموم» وإذ تمسك الملوك بسلطاتهم دار صراع طويل من أجل الديمقراطية أسفر في النهاية عن إقرار الديمقراطية بعد نجاح ثورة «أوليفر كرومويل» وإعدام الملك شارل الأول سنة 1649م. الثورة الفكرية كان لهذه الثورة أصداء هائلة في أوروبا، إذ أن نجاحها ثم انتكاستها من أهم أسباب الثورة الفكرية التي تبناها فلاسفة ومفكرو عصر الأنوار – الذين أشرنا إليهم من قبل – وأسفرت عما عرف باسم «العقد الاجتماعي» الذي شكل أهم مقومات الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. بديهي أن تحدث الثورة الفرنسية سنة 1789م زلزالا في أوروبا، أسفر فيما أسفر عن انتصار البورجوازية علي الاقطاع، وتحول البورجوازية إلي رأسمالية صناعية، وهو ما قدم مناخا ملائما لنمذجة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، بعد القضاء علي الملكية الاستبدادية المطلقة، التي تمكن الشعب وعمل علي زوالها بالثورة، ذلك أن ملكية أسرة «البربون» كانت لا تقارن بالملكية البرلمانية في انجلترا، وحتي بنظام الحكم المستنير في بروسيا، إذ قضت الملكية الفرنسية علي الكثير من النظم البرلمانية، ولم تبق إلا علي «مجلس طبقات الأمة» الذي كان يسيطر عليه الطبقة الأرستقراطية، وكان رأيه استشاريا فقط، ولم يكن بوسعه التشريع، ومع ذلك كان الملك لويس السادس عشر يوقف جلساته، اللهم إلا ليحصل علي موافقته في فرض ضرائب جديدة، أما «برلمان باريس»، فكان كخيال الظل مجردا من أية سلطات، بالمثل، كانت «مجالس الطبقات» في الأقاليم، شأنها في ذلك شأن مجلس طبقات الأمة. دستور جديد ولا غرو، فقد كان من أهم أسباب الثورة مسألة حرص «الجمعية الوطنية» – التي أسستها قوي الثورة – علي وضع دستور جديد للبلاد، ورفض الملك، الأمر الذي عجل بقيام الثورة، وشرع الثوار لوضع الدستور وفق المبادئ التي تضمنها كتاب «روسو» «العقد الاجتماعي»، والتي تقرر حق الشعب في الحرية الفردية والعقيدة والفكر والملكية الفردية التي جسدتها الثورة في إعلان «حقوق الإنسان» وذلك في شعار «الحرية والعدل والمساواة»، كذا الأخذ بمبدأ «الفصل بين السلطات» الثلاث الذي ضمنه «مونتسكيو» كتابه «روح القوانين». والأهم من ذلك أن «الشعب هو مصدر السلطات»، هذا فضلا عن إلغاء نظام الاقطاع والإعفاء من دفع الضرائب، وخضوع الكنيسة للقانون المدني، بحيث تحرم من الامتيازات التي تمتع بها «الإمكايروس»، وانتخاب رجال الدين. وبعد نجاح الثوار في مواجهة الانقلابات الداخلية والأخطار الخارجية، جري إلغاء دستور 1791، ووضع دستور جديد سنة 1795م، أكثر ثورية وديمقراطية، وقد ظل العمل به ساريا حتي أجريت عليه بعض التعديلات وصدر باسم «الدستور القنصلي» سنة 1799م، وهو يعطي لرئيس الوزراء سلطات واسعة، يليه رئيس الجيش في المرتبة، ونحن في غني عن سرد تفصيلاته، اللهم إلا أنه كان يحقق «لنابليون بونابرت» طموحه نحو أن يصبح إمبراطورا. وإذا تحقق طموحه، عول علي القيام بإصلاحات قانونية تعبر عن روح الثورة وحقوق الشعب، ولاتزال بعض تلك القوانين سارية في فرنسا إلي اليوم، كما أن قوانين نابليون ما لبثت أن عملت عملها في أوروبا التي تطلعت لعصر جديد و«دولة عصرية»، وهو ما يفسر اندلاع ثورات عامي 1830، 1848، واضطر ملوك أوروبا إلي إجراء إصلاحات عميقة متأثرة بأنموذج فرنسا، يمكن اختزالها في عبارة – عبدالله العروي – «الثورة مقابل التقليد، الحرية مقابل العبودية، الديمقراطية مقابل الاستبداد»، إذ بهرت أوروبا بتشريعات بونابرت، خصوصا ما تعلق منها بالجيش والإدارة والاقتصاد والتعليم. جيش وطني بصدد الجيش، قدم بونابرت أنموذجا لجيش وطني شعبي ديمقراطي يدين بالولاء للوطن ويقدس النظام والالتزام، وهو ما جعل «ماكس فيبر» – حسب نظريته التي عرضنا لها من قبل – يعزي إلي قوانين بونابرت الفضل في «تنظيم جيش حداثي كان بمثابة مدرسة لنشر العقلنة» أما عن إصلاح نظام الإدارة، فقد أسفرت قوانين بونابرت عن «وضع قوانين تطبق علي كل المواطنين بدون تمييز جغرافي أو عرقي أو طبقي أو ديني»، بذلك استطاع تكوين «جيش مدني» من البيروقراطيين الذين لديهم القدرة علي تخليق «دولة عصرية»، بفضل «تحويل العمل الجماعي إلي عمل مجتمعي معقول ومنظم عن طريق موهبة متكاملة قوامها العقل»، علي تعبير «ماكس فيبر». في مجال الاقتصاد، اكتست الدولة العصرية مكانتها المتميزة، بفضل قوانين بونابرت التي وجهت العمل الإنتاجي وفق «وحدات» متجانسة تشكل في قوامها دولاب عمل متكامل ومنضبط وفق خطة عقلانية تستهدف في النهاية تعاظم الإنتاج، ولا غرو، فقد أدت تلك القوانين إلي إزالة كل المعوقات، كالحواجز الجمركية، وإلغاء جميع القوانين واللوائح المقيدة للخبرات والابتكارات الخاصة بالفرد المنتج. الدولة بديلا عن الكنيسة أما نظام التعليم، فيعزي إلي قوانين بونابرت تنظيم التعليم الثانوي والعالي وإلحاقه بالدولة بعد أن كان تحت هيمنة الكنيسة، فضلا عن ربط البحث العلمي بالجانب التقني، وقد أدي هذا التنظيم إلي إمداد الدولة – بانتظام – بكوادر من المهنيين والحقوقيين والمحاسبين والعمال المدربين، كما جعل الفرنسية لغة الدراسة، استهدافا لثقافة وطنية، لقد نجح بونابرت – باختصار – في ترجمة أفكار جماعة «الموسوعيين» إلي واقع عملي مؤسس وفق خطط مدروسة لإنجاز أهداف محددة. لذلك، قدمت الثورة الفرنسية لفرنسا وأوروبا والعالم أنموذجا للدولة الوطنية العصرية المدنية الديمقراطية، جديرا بأن يحتذي. فماذا عن تاريخ الدولة الثيوقراطية الدينية؟ الإجابة يتضمنها المقال التالي.