نقل وزير التربية السوري (1200) مدرسة منتقبة من صفوف التدريس إلي وزارات الدولة الأخري، وقد تمت الإشارة إلي مبررات عديدة لهذا الإجراء منها أنه خطوة في طريق العلمانية باعتبار أن النظام السوري نظام علماني ولهذا اخذ الوزير هذا القرار، ومنها أن المدرسة المنتقبة تفتقد بعض وسائل التواصل مع طلابها بسبب نقابها، حيث لايري الطالب وجه المدرسة ولا تستطيع هي استخدام الإشارات او الحركات اللازمة لإلقاء الدرس، وغيرها من المبررات. إن انتشار النقاب وزيادة عدد المنتقبات في سورية خلال الثلاثين عاما ماضية، أمر يلفت الانتباه لأنه لا يعبر عن زيادة درجة التدين بقدر ما هو ظاهرة سياسية واقتصادية واجتماعية لجأ إليها أهل النقاب كل لهدف معين، ثم اصبح النقاب مع الزمن ظاهرة حقيقية تعّود عليها الناس وتكاد تصبح من طبيعة الأمور ولباساً عادياً وربما طقساً غير مستغرب ولا يلفت الانتباه، وكثيراً ما تشهد في شوارع دمشق منتقبة تقود سيارة، وتخالف أحياناً نظام المرور دون أن يجرؤ شرطي المرور علي إيقافها أو مخالفتها، لأنها ستتهمه بمخالفة تعاليم الدين، واستفزازاً (لخفرها) ومحاولة لإلزامها الكشف عن وجهها ، وتنجو غالباً من المخالفة، خاصة انها كثيراً ما تجد من يساند موقفها من المارة. في خمسينات القرن الماضي كان من المستحيل أن تصادف طالبة منقبة في جامعة دمشق، وحتي المحجبات فكن نادرات. أما الآن فإن زرت جامعة دمشق، نادراً ما تصادف طالبة سافرة فالأكثرية الساحقة من الطالبات محجبات وأقلية الأقلية سافرات، وهناك نسب قليلة من الطالبات المنتقبات. أي أن الأمر انقلب رأساً علي عقب خلال خمسين عاما ًونيف، باتجاه زيادة نسبة النساء المحجبات والمنتقبات أيضاً. أما نسبة عدد السافرات فهي في تراجع باستمرار. إنه لم يكن من النادر قبل نصف قرن ان يشترط الخاطب علي خطيبته أن تخلع حجابها بعد الزواج، أما الآن فغالباً ما يطالبها إن كانت سافرة وضع الحجاب بعد الزواج، والبعض يغالي فيشترط عليها لبس النقاب. في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته انتشرت في سوريا انتشاراً واسعاً حلقات المريدات، حيث تتجمع عشرات منهن حول (الداعية) ويجتمعن أسبوعياً في أحد المنازل ويستمعن إلي دروس دينية من هذه الداعية (الشيخة)، وكثيراً ما كانت الداعيات لا يفقهن بالدين شيئاً، بينما بعض المريدات هن من خريجات الجامعة ومهندسات وطبيبات، ومع ذلك كن يستمعن بشغف لهذه الدروس البعيدة جداً عن صحيح الدين ، وقد بلغ عدد المريدات في مدينة دمشق عشرات الألوف (انتبه عشرات الألوف) وكان لهن شكل تنظيمي ما، لكنهن كن يؤكدن دائماً أن تجمعهن هو تجمع ديني وليس سياسياً لينجون من الملاحقة، وكان لهذه الهيكلية طقوس ومراتب تعبر عن نفسها بلون الجلباب والحجاب، فالأزرق مرتبة والأسود أخري.. وهكذا، وكانت أجهزة الأمن ومازالت تتجاهل هذه التنظيمات بحجة أن اهتمامها ديني وليس سياسياً، والواقع ان حقيقة التجاهل هو خوف هذه الأجهزة من ان تتهم بمعاداة الدين ، وقد استغلت التيارات الدينية خشية النظام من هذه التهمة، ووسعت نشاطها إلي الحد الأقصي ومازالت.. وفي نهاية سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته أيضاً، تحول نشاط الفئات الدينية إلي إحياء الموالد بكل مناسبة.. وكان صعباً علي النظام السياسي والسلطة الأمنية منع مثل هذه الموالد، ولذلك استغلتها الفئات المتدينة إلي الحد الأقصي لتنشط وتنظم نفسها، وكانت الحجة جاهزة دائماً وهي أن النشاط ديني وليس سياسيا.. تذكر وزير التربية السوري الآن مشكوراً وجود المنتقبات والنتائج السلبية لوجودهن، وتحت اسم العلمانية، نقل المدرسات المنتقبات خارج صفوف التدريس، وهنا تبرز ملاحظتان مهمتان: أولهما تزامن هذا القرار مع ما يجري في أوروبا من محاولات التضييق علي المنتقبات. وثانيهما لا علاقة لهذا الإجراء في الواقع بالعلمانية ، فالعلمانية ليست باللباس ولا بالطقوس، وإنما علاقتها بالبنية الفلسفية والاجتماعية والسياسية والديموقراطية للمجتمع وأفكاره وتنظيماته ومدي احترامه لمفاهيم ومعايير الدولة الحديثة. ومن يريد أن يحول نظامه إلي نظام علماني أو يحافظ علي (علمانيته) فينبغي أن لا يبقي قانون الأحوال الشخصية مثلاً كما أراده أكثر الفقهاء تشدداً. فقد حاولت جهات داخل النظام السياسي تعديل قانون الأحوال الشخصية السوري المعمول به، فشكلت لجنة لإعداد مشروع جديد لكن عادت به اللجنة خطوات إلي الوراء، ليس فقط في مضمونه بل أيضاً في مصطلحاته (كالعودة لمصطلح الذمي مثلاً) وانتزاع ما حققته نضالات التقدميين والعلمانيين والمرأة السورية خلال عشرات السنين ، وقد هبت الأوساط التقدمية والنسائية وجمعيات المجتمع المدني والأهلي ضد هذا المشروع فاضطرت الحكومة إلي سحبه من التداول ، وقيل إنها تتنظر فرصة مناسبة للعودة به علي طريق الإقرار. يبدو أن هناك مشكلة في سورية هي خوف النظام غير المبرر أحياناً من الفئات الدينية ، وقدرة هذه علي التدليس بما يمكنها من إقناع الآخر انها لا تسيس الدين، وأن اهدافها دينية صرفة، وتعبر دائماً عن تأييدها المطلق للنظام، وهذا في الواقع شأنها منذ خمسين عاماً.