انشأت سوريا في الأربعين عاما الأخيرة مساجد اكثر مما بني منذ دخول الإسلام إليها ما إن قرر وزير التربية السوري نقل (1200) مدرّسة منتقبة من المدارس إلي دوائر الدولة الأخري، وقرر وزير التعليم العالي عدم دخول المنتقبات إلي الحرم الجامعي، حتي بدأت وسائل الإعلام العربية، وأوساط الرأي العام العربي تشير إلي أن النظام السياسي في سورية نظام علماني، وأخذت التعليقات والآراء تتمحور حول هذا الأمر، حتي أن بعض أهل النظام السوري بدورهم تذكروا أن نظامهم علماني. الملاحظ من خلال الآراء والحوارات والأخبار التي قيلت او كتبت حول هذا الموضوع أن أصحابها بلا استثناء يفهمون العلمانية علي أنها لاتتجاوز أمر فصل الدين عن الدولة، بل إن بعضهم اعتبرها أمراً ذاتياً وشخصياً وليس مجتمعياً وسياسياً واقتصادياً شاملاً كما هو بالفعل، ولذلك قسم هذا البعض الناس إلي قسمين إما (مؤمن غير علماني) وإما ( علماني ملحد)، وهكذا جردوا العلمانية من مفهومها الحقيقي الواسع الكامل المتكامل. تحرير الفرد يقول المفكرون والفلاسفة إن مفهوم العلمانية يتناول دور الفرد وتحريره من أي سلطة أخري ، وهيمنته علي الطبيعة ، واستخدامه للعقل والعقلانية لتشكيل وعيه وتلمس معارفه وتقرير مصير مجتمعه، كما يتناول الدولة وتكوينها ووظائفها وهيكليتها ومفاهيمها (المواطنة كمرجعية وحيدة، المساواة، الحرية، الديموقراطية، التعددية، فصل السلطات..) وتتضافر مع العقلانية والديموقراطية كشروط لأداء مهماتها، وتستبدل بمفاهيم الحلال والحرام مقتضيات القانون والنظام، وقد ظهرت في الغرب كفلسفة للديموقراطية والعقلانية والتحديث السياسي الذي يتيح لجميع المواطنين حقوقاً متساوية، وهي حركة اجتماعية تنشأ في المجتمع متأثرة بظروف التطور القائمة مستجيبة لمعطياتها، وتعني جملة من التحولات التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية، وفي الحالات كلها لا تعني العلمانية القضاء علي الدين وإنما تؤكد حيادية الدولة تجاه العقائد الدينية وضمان حرية الأفراد في اعتناق دينهم ، وحمايتهم وإتاحة الفرصة لهم لممارسة عباداتهم. لو أخذنا هذا المفهوم الأخير للعلمانية وطبقناه علي سورية لاكتشفنا أن النظام السياسي السوري لا يفصل الدين عن الدولة، فالدستور السوري ينص علي أن الإسلام هو دين رئيس الدولة، وأن الإسلام مصدر من مصادر التشريع (كيف يكون النظام علمانياً ومصادره دينية؟) وقانون الأحوال الشخصية السوري مازال كما صاغه الفقهاء منذ مئات السنين، سواء ما يتعلق بالزواج أو الطلاق أو الإرث أو الوصاية أو التنقل أو ولاية المراة علي نفسها..الخ، وعندما حاولت الحكومة السورية تعديله في مطلع هذا العام، شكلت لجنة من المحافظين والمتعصبين قدمت مشروعاً بديلاً هو خطوة للوراء، فثارت ثائرة المنظمات النسائية ومنظمات المجتمع المدني مما اضطر الحكومة إلي تأجيل إجراءات صدوره. وقد بُني في سورية من المساجد في الأربعين عاماً الماضية أكثر مما بني فيها خلال تاريخها كله، منذ قدوم الإسلام حتي قيام نظام حزب البعث (كما قال الرئيس الراحل حافظ الأسد في أحد خطاباته)، وهناك أمثلة مشابهة عديدة في الحياة السورية. منعت السلطات السورية قبل أربعة أشهر عقد ندوة عن العلمانية كانت ستعقد قي قاعة مغلقة في جامعة دمشق لا يتجاوز عدد المدعوين إليها مائة شخص، بينما سمحت قبل أسبوعين لأحد الدعاة إلقاء محاضرة في مدينة حلب حضرها ستة آلاف شخص، وهي تسمح لداعية آخر(وهو محافظ وأصولي ومتعصب لسوء الحظ) بأن يلقي عظة أسبوعية لمدة ساعة من تليفزيون دمشق (القناة الرئيسية) وتمنع ذلك علي التقدميين والديمقراطيين ، وتحتل البرامج الدينية في وسائل الإعلام السورية المسموعة والمرئية نسبة لاتقل عن مثيلاتها في الدول العربية المحافظة الأخري (باستثناء بعض دول الخليج) بل تزيد علي ذلك. رقابة دينية وقد أصدر وزير الإعلام السوري قبل شهرين قراراً يتضمن ضرورة موافقة وزارة الأوقاف علي المواد التي تتناول شأناً ذي شبهة دينية في أي عمل تليفزيوني، حتي أن مسلسلاً عن أبي خليل القباني المسرحي الشهير، يحتوي علي مقابلة (شكلية) له مع السلطان عبد الحميد ألزم منتجوه بعرضه علي وزارة الأوقاف لأخذ موافقتها، كما منعت هذه الوزارة علي شركة أرادت أن تصور مقابلات من ثلاثين حلقة مع الكاتب الإسلامي المتنور محمد شحرور، لا يخرج مضمونها عن مضمون كتبه المتداولة في الأسواق، مع أن هذا العمل لم يكن لصالح وسيلة إعلام سورية يمكن أن تتهم جراء بثه. والأمر نفسه في الصحافة والرقابة علي الكتب، فالأولي ترفض نشر أي مادة تتعلق بمناقشة الخطاب الديني أو نقد التراث أو حتي رفض تقديسه ، والثانية تمنع طبع أو استيراد أو تداول أي كتاب يتعرض لمثل هذه الأمور. ومادام الأمر كذلك فأين العلمانية إذن؟. وأخيراً يمكن القول بأن النظام السياسي السوري يتجه نحو العلمانية عندما يبدأ يتجفيف منابع الفكر المتعصب والممارسات الدينية الأصولية الخارجة عن صحيح الدين وتمنعها من التدخل في شئون الدولة، وإلا ستبقي هذه الإجراءات كتابة علي الرمال، ومظاهر جزئية (تبدو علمانية) ولكنها في حقيقتها ليست سوي ردود فعل أو مؤشرغضب أو ريبة لن تعطي نتائجها المرغوبة .