علي فين.. يا بدر.. مودينا؟! قانون الطوارئ يخيف عددا محدودا من الإرهابيين وتجار المخدرات.. أما الثانوية العامة فهي تصيب الغالبية العظمي من المواطنين بالخوف القهري مدي الحياة! الصلاة والصيام وطاعة الله ورسوله وأصحابه باتت من الملامح العصرية لامتحانات الثانوية العامة. فالكل يصلي.. والكل يتعبد في سبيل مرضاة الله. يضاف إلي ذلك استخدام الريموت كونترول في الانتقال بين البرامج الدينية التي يظهر بها أرباب العمائم علي القنوات الفضائية والأرضية للسؤال عن الأدوية التي يتوجهون بها للسماء للحصول علي المجاميع العالية. في واحد من أشهر هذه البرامج.. التي ترتفع فيها حصيلة الإعلانات توجهت طالبة قالت إن اسمها «نجاة» بسؤال لفضيلة المفتي عن الأدعية المناسبة للنجاح في الإنجليزي والرياضيات.. فأجاب فضيلته عن السؤال وأشار لعدد من الأدعية.. بيد أن الطالبة التمست من فضيلته أن يوجه الدعاء بصوته.. فاستجاب وقال: اللهم سهل لنجاة الإنجليزي والرياضيات!. وانتقل البرنامج لأمثلة أخري.. لم يكن من المتصور توجيهها علي الملأ.. لولا الاختراعات الحديثة.. التي ابتدعتها عقول غير المسلمين.. كي يتعرف طلبة الثانوية العامة علي عدد الركعات اللازمة لإتقان اللغة الإنجليزية. وامتحان الثانوية العامة.. ليس مجرد وسيلة للتعرف علي قدرات الطلبة.. ولكنه الطريقة التي يجري بها تطبيق قانون الطوارئ بأدوات أخري. قانون الطوارئ يخيف عددا محدودا من الإرهابيين وتجار المخدرات.. أما الثانوية العامة فهي تصيب الغالبية العظمي من المواطنين بالخوف القهري مدي الحياة. مرة واحدة تكفي.. لإصابة أسرة بأكملها بالخوف القهري مدي الحياة.. من المهد إلي اللحد. البعض يصاب بالخوف القهري من الأماكن المرتفعة أو المغلقة أو المظلمة.. أو التي تطل علي بحار.. أو حتي من قانون الطوارئ.. ولكن الكل يخاف من الثانوية العامة. لأن الثانوية.. رعب.. بلا قانون.. رعب عشوائي. وهي لعبة بلا قواعد.. وبلا حكام.. وبلا حراس مرمي!. وتعتمد في جوهرها علي تكوين المواطن الصالح.. الذي يخشي المراقبين والمخبرين.. ويتهرب من الضريبة العقارية.. ومن الانتخابات الحرة النزيهة.. ويصاب بالهلع عند مشاهدة عربة الترحيلات. مواطن صالح.. وفق القواعد الأمنية السائدة. والأهم من هذا كله أن الأصوات ترتفع لعنان السماء احتجاجا علي قانون الطوارئ.. وضد ما يسمي ب «الدولة البوليسية».. ولم نسمع أن الأصوات ارتفعت للاحتجاج علي الثانوية العامة.. التي تهدر حقوق الإنسان.. وتصيب عقول أبناء هذه الأمة بالشلل الرعاش نتيجة إلغاء قدرة الإنسان علي التفكير والتأمل.. والاعتماد علي شحذ قدراته علي الحفظ والتلقين.. والغش الجماعي. علما بأن الثانوية العامة.. أشد خطرا علي المجتمع من قانون الطوارئ.. بكثير!. قانون الطوارئ.. يضمن السجن لشخص واحد في الأسرة.. أما الثانوية العامة فهي تلقي بالعقوبة علي أطفال أبرياء.. يرون الآباء والأمهات.. يبكون ويصرخون وتنشر صحف الحكومة.. صورهم في الصفحات الأولي.. ومعها أنباء صعوبة الامتحانات التي يضعها في الغالب.. أناس لم يحصلوا علي مجاميع عالية في امتحانات الثانوية العامة. الثانوية العامة.. إذن.. هي وسيلة إصلاح وتهذيب وتأديب. وهي أداة ابتدعها حكامنا.. للانفراد بالسلطة وتوريثها عند اللزوم.. علي غرار قانون الطوارئ. وإذا تأملنا العناوين الرئيسية في صحف الحكومة.. طوال الأسابيع الماضية نكتشف أن الثانوية أعز علي الحكومة من مجلسي الشعب والشوري.. وتليفزيون الفقي وإذاعة انتصار شلبي.. وصحافة صفوت الشريف.. وقانون الطوارئ. الحكومة تستطيع أن تعيش.. بدون كل هذه الأسلحة.. وأن تستغني عن ميزانيات «القنعرة».. وأن تكف عن هز الأعطاف.. ولكنها لا تستطيع الاستغناء عن الثانوية العامة والدروس الخصوصية.. وبكاء الآباء أمام اللجان.. ونحيب الأمهات.. وصيحات الأبناء!. بكاء الآباء أمام اللجان امتحانات الثانوية.. هو صمام الأمان.. وأن كل شيء في البلد تمام التمام. فالثانوية العامة.. هي أداة سياسية.. اعتمد عليها حكامنا في تصفية شركات القطاع العام.. وبيع توشكي وأرض ميدان التحرير.. وجزيرة آمون.. و«مدينتي والصحاري والفنادق وتراث الإذاعة والتليفزيون.. وسحب الآثار المصرية من المتاحف العالمية لتحقيق رغبة إسرائيلية في تحويلها لأقسام للآثار العبرية.. ناهيكم عن تزوير الانتخابات.. إلخ. كل هذه الإنجازات لم تكن لتتحقق بدون الثانوية العامة.. وبدون الدروس الخصوصية.. لسبب بسيط هو أن الثانوية العامة حولت المجتمع المصري لمجتمع متزاحم ومتلاحم. الناس في ازدحام مروع.. وفي حالة احتكاك والتحام.. وهم يحتكون ويلتحمون لأتفه الأسباب.. عندما تكون الثانوية العامة علي الأبواب.. فتضاف لمصائب العائلات مصيبة كبري. والحكومة تتفرج.. مثل كل سنة، وتقوم صحفها بالنفخ في النيران لتزيدها اشتعالا.. وهي تري ضحايا الثانوية العامة.. والتعليم بالحفظ والتلقين.. وهم يصارعون البلاوي من كل جانب. الحكومة تتطلع لضحايا الثانوية العامة.. بعيون الشماتة. أحوال وأهوال لم تتغير ولم تتبدل طوال 30 سنة.. وفي كل مرة تعلن أنها ستكافح الدروس الخصوصية وستلقي القبض علي خفافيش التدريس في الظلام الدامس.. ويحدث العكس.. والأحوال تزداد سوءا والمدارس تتوقف عن التعليم.. والحكومة غائبة عن الوجدان ولا يشغلها سوي تحريك عملية السلام والصلح بين الفصائل.. والإبقاء علي الثانوية العامة التي تتوارثها الأجيال.. وتصيب كل جيل بعقدة الخوف القهري عند مشاهدة المخبرين.. والمراقبين.. ومواكب حكامنا المدججة بالأسلحة الرشاشة. وفي كل سنة يبدأ مولد الثانوية العامة.. بالعناوين الرئيسية التي تنشرها صحف الحكومة.. وتكون أشبه بالموسيقي التصويرية التي تسبق الأحداث الدامية في أفلام الرعب. فأنت تقرأ عن الإجراءات المشددة لتأمين نقل الأسئلة وتوفير الجو المناسب للطلاب باللجان.. وتقرأ أن 399 ألف طالب وطالبة يدخلون المرحلة الأولي.. و70 ألفا بالثانية. وتقرأ عن استخدام طائرات عسكرية بمساعدة القوات المسلحة لنقل أسئلة الامتحان الخاصة بالمحافظات البعيدة والمناطق النائية.. دون أن تحدد الصحف نوعية هذه الطائرات العسكرية.. ومدي قدرتها علي المناورة في الجو.. وتفادي الصواريخ التي يمكن أن يطلقها أولياء الأمور. وقبل يوم واحد من بدء الامتحانات.. جاء مانشيت جريدة الأخبار يوم الجمعة 11 يونيو 2010 كالآتي: امتحانات الثانوية العامة غدا!. وقالت في الخبر إن جميع محافظات الجمهورية قامت بالتنسيق مع مديريات الأمن من وضع خطة تأمين الأسئلة وأوراق الإجابة!. وقالت في اليوم التالي إن الوزير زكي بدر قرر وقف 2000 مدرس ومعاون لجنة عن العمل وإحالتهم للتحقيق بالشئون القانونية بالوزارة لتخلفهم عن أداء واجباتهم في أعمال المراقبة بامتحانات الثانوية العامة. وهكذا تبدأ الموسيقي التصويرية.. للإعلان عن فيلم رعب تقوم فيه طائرات سلاح الطيران بطلعات جوية لنقل أسئلة الامتحانات الخاصة بالمحافظات، وقيام جميع المحافظات بالتنسيق مع الجهات الأمنية لوضع خطة تأمين الأسئلة وأوراق الإجابة. وفي الأيام التالية تبدأ أحداث الفيلم المرعب بالصور التي تنشرها صحف الحكومة حول شكاوي الطلبة من صعوبة امتحان التفاضل..و تصريحات الوزير بدر التي يؤكد فيها أنه لا يوجد امتحان صعب.. ويأمر بتشكيل لجنة لبحث شكاوي التلاميذ. وقالت صحيفة «الأخبار» في صدر صفحتها الأولي إنه عند توزيع أسئلة حساب المثلثات تعالت صرخات الطلبة.. وأصيبت الطالبات بحالات إغماء.. ووصف أولياء الأمور الامتحان بأنه «تعجيزي». ونشرت صحيفة «الأهرام» يوم الثلاثاء 15 يونيو صورة لإحدي الأمهات وهي تحتضن ابنتها وعلي وجهيهما علامات ذعر.. لم تعرفه الصحف منذ دخول القوات الروسية للعاصمة الألمانية برلين.. في نهاية الحرب العالمية الثانية. ذعر بشري مهول، وكأن في خلفية الصورة جثث قتلي وأشلاء جرحي.. ورائحة دم ممزوجة برائحة العرق وأوراق البرشام. وتتوالي الانهيارات من صعوبة أسئلة اللغة الإنجليزية ويقول الطلبة.. إنها غير مفهومة (!!) لأنها بالإنجليزي.. ويقول المدرسون.. إن الامتحان من خارج المنهج.. ويقرر الوزير بدر تشكيل لجنة لتقييم الأسئلة. وتبدو المفارقة هنا أن الشكوي تتلخص في صعوبة الأسئلة.. الأمر الذي يدعو للدهشة لسبب بسيط.. هو أن اللغات الأجنبية لا تعرف.. مصطلح.. «نصف معرفة».. فأنت.. إما تعرف اللغة.. وإما لا تعرفها.. إذ ليس من المنطقي أن تقول إحدي السيدات إنها «نصف حامل».. فهي إما أن تكون حاملا.. وإما لا تكون. والمشكلة هنا.. أن التعليم عندنا لا يعتمد علي الفهم وإنما علي الحفظ والتلقين، فإذا خرجت الأسئلة علي حدود ما حفظه التلميذ عن ظهر قلب.. ضاعت قدرته علي فهم الأسئلة ناهيكم عن الإجابة. وانتقلت أنباء صعوبة أسئلة امتحان اللغة الإنجليزية من صحف الحكومة إلي الفضائيات.. وجاء في صدر صحيفة الأهرام يوم الأربعاء 16 يونيو 2010، المانشيت الآتي: مجلس الشعب يحيل امتحان الإنجليزية إلي لجنة التعليم للتأكد من توافقه مع المنهج!. زكريا عزمي يطالب بإعادة توزيع درجات أسئلة الامتحان. ومعني الكلام أن مجلس الشعب الموقر.. سوف يبحث مدي مطابقة امتحان اللغة الإنجليزية للمنهج.. في تصفية غير مسبوقة لموضوع الثانوية العامة، كي يقوم بدوره السياسي المكمل لقانون الطوارئ. وهو موقف يكشف التردي.. الذي وصل إليه ضعف الإدراك.. إلي حد قيام مجلس الشعب.. بالبحث وراء مدي مطابقة امتحان اللغة الإنجليزية للمنهج. مجلس الشعب لم يجتمع لبحث كارثة الثانوية العامة ولكنه يجتمع لبحث صعوبة امتحان اللغة الإنجليزية. حاجة تحرق الأعصاب علي رأي الرئيس الأمريكي أوباما بعد هزيمة فريق بلاده أمام غانا في مباريات المونديال. نحن إذن أمام حالة اختلط فيها الحابل بالنابل.. ولم يعد مجتمعنا يفرق بين الخطأ والصواب.. ولذلك يقتضي الحال إعادة النظر في المفاهيم السائدة.. لإعادة الانضباط لمرافقنا التعليمية. وإذا كانت الغالبية العظمي من أبناء هذه الأمة.. تطالب بالتغيير.. فإن هذا التغيير لن يتم إلا بإصلاح منظومة التعليم التي تآكلت طوال الثلاثين سنة الأخيرة بسبب استخدامها في تثبت سلطان النظام السياسي القائم.، ولذلك فإن عمليات الإصلاح التي يقوم بها الوزير زكي بدر.. ليست سهلة.. وهي بمثابة السير وسط حقول إلغام، ولكنها السبيل الوحيد لبداية الإصلاح الشامل في كل قطاعات هذا الوطن العزيز. الإصلاح يبدأ.. بالأخلاق.. والبعض لايزال يتساءل: