يدور في الكويت الآن صراع عنيف حول مستقبل الديمقراطية في البلاد بين توجهات الأمير لتغيير نظام انتخاب مجلس الأمة (البرلمان) الذي اتخذ قرارا بحله، وبين أعضاء المجلس الذي يتشكل من غالبية اسلامية والذين يعتبرون تغيير القانون انقلابا علي الدستور قائلين إنهم لن يحترموا من لم يحترم الدستور ومن لا يؤمن بالمشاركة الشعبية. وأكدوا أن أي تغيير في قانون الانتخابات لابد أن يأتي عن طريق مجلس الأمة ذاته الذي هو سلطة التشريع، ولا يجوز للأمير أن يقبض علي السلطتين التنفيذية والتشريعة معا. بدأ الحراك الشعبي في الكويت مبكرا وقبل الثورات العربية أو ما يسمي بالربيع العربي، كما أن أول مطالبة بالرحيل خرجت من هتافات الجماهير الغاضبة «ارحل نريد الافضل»، وكانت موجهة لرئيس الوزراء السابق الشيخ ناصر المحمد الصباح. الذي رحل تحت ضغط الحراك الشعبي الحاشد وعين نائبه الشيخ جابر المبارك الصباح، وهي سابقة تاريخية تدل علي ارتفاع سقف مطالب الجماهير وزيادة السخط جراء الانتهاكات المتكررة للدستور وافراغه من محتواه، وجراء عملية الفساد والإفساد، التي تم عبرها ضخ المال السياسي بالملايين وشراء ضمائر نواب مجلس 2009، اضافة إلي التحويلات المالية الضخمة في الخارج عن طريق وزارة الخارجية والتي لم يعرف حتي الآن إلي أين ذهبت. الجذور ولكن الأزمات والصراعات السياسية لم تكن وليدة هذا العصر. بل بدأت منذ مطالبة التجار بالمشاركة في الحكم عام 1921 عن طريق مجلس الشوري. ومن خلال عريضة وقعت عليها مجموعة مهمة من التجار والشخصيات المستنيرة، ولكن لم يكتب لها النجاح، كما تكررت هذه الأزمة عندما طالب مجموعة من المثقفين والناشطين سياسيا بمجلس تشريعي عام 1938. وتمت موافقة الحاكم في ذلك الوقت ووضع دستورا متطورا في مواده، واستمر هذا المجلس حتي عام 1939، بعدها استشعر الانجليز الذين كانوا يرتبطون بمعاهدة حماية منذ عام 1899 مع الكويت، استشعروا خطر فقدانهم لامتيازات الاستيلاء علي الثروة النفطية التي كشفت التنقيبات الأولية عن وجود كميات هائلة منها في باطن الأراضي الكويتية، فأوعزوا إلي حاكم الكويت للتحلل من التزاماته تجاه المجلس التشريعي المنتخب وحله ولو بالقوة، وبالفعل تم حله ولو حق اعضاؤه الذين فر بعضهم خارج الكويت وأعدم بعضهم مثل الشهيد «محمد المنيس» وأطلق النار علي الشهيد محمد القطامي الشقيق الأكبر للزعيم الناصري الراحل جاسم القطامي كما اعتقل وسجن خمسة من اعضاء المجلس. ووضع المجلس التأسيسي المكون من شخصيات وطنية وبمساعدة الخبير الدستوري المصري الدكتور عثمان خليل عثمان، ووضع دستور «الحد الأدني» الذي مازال معمولا به حتي الآن، رغم أن المذكرة التفسيرية نصت علي أنه بعد مرور خمس سنوات علي الدستور يمكن تطويره إلي مزيد من ضمانات الحرية، وتطويره من نظام يجمع بين النظامين الرئاسي والبرلماني مع ميل أكبر للثاني باتجاه النظام البرلماني. مع ذلك اعتبر كثير من ابناء الأسرة الحاكمة وغيرهم من المتضررين هذا الدستور خطأ تاريخيا يجب أن يصحح، وفي انتخابات المجلس الأول عام 1963 فازت كتلة النواب الوطنيين، ومنذ ذلك الوقت وهجوم السلطة مستمر علي البرلمان وعلي الدستور. عاد العمل بالبرلمان بعد التحرير من غزو صدام حسين وأجريت الانتخابات عام 1992، ولكن محاولات البعث بالنظام الانتخابي والإخلال بتركيبة اعضاء مجلس الأمة لم تتوقف من خلال استخدام المال السياسي والإغراءات، اضافة إلي تقسيم الدوائر الانتخابية إلي خمس وعشرين دائرة، التي أتاحت الفرصة للاستقطابات الطائفية والقبلية والفئوية والمناطقية. ثم تشكلت الحركة الشبابية القوية عام 2006 المطالبة بتقسيم الدوائر إلي خمس وهو ما عرف بحركة «نبيها خمس»، وهذا ما تم بالفعل، بعدما قدم مجلس الوزراء استقالته ورحل مجلس الأمة، وجرت الانتخابيات بناء علي نظام الدوائر الخمس، بيد أن السلطة والمجلس ظلا في حالة تأزم سياسي جراء محاولات السلطة للتأثير علي الانتخابات النيابية من أجل مخرجات تضمن لها غطاء نيابيا في البرلمان بكل الطرق والوسائل. وكان من شأن الأزمات المتلاحقة بعد ذلك أن تثير الشارع الكويتي، فاضطرت السلطة إلي اللجوء إلي الاجراءات الأمنية القمعية، ولكن ذلك زاد من غضب الشار ع واتسعت حركة الاحتجاجات الشعبية، كما جرت في العامين الماضيين أوسع اضرابات مطالبة بتحقيق العدالة بالأجور حسب نصوص القانون الذي يشير إلي ضرورة مراجعة الرواتب كل سنتين ومقارنتها بارتفاع المعيشة وبما يحقق العدالة. إفشال الخصخصة ثم حاولت السلطة من خلال المجلس المنتخب عام 2009 تمرير قانون الخصخصة علي جميع القطاعات بما فيها التعليم والصحة والنفط، ولكن القوي التقدمية والنقابية والشبابية وبعض النواب تصدت لبيع القطاع العام بأكمله للقطاع الخاص، واستطاعت هذه القوي أن توقف خصخصة كل من التعليم والصحة والنفط في المداولة الثانية للمشروع. وعلي أثر الثورات العربية في كل من تونس ومصر أولا، تشكل واقع جديد وسيكولوجية جديدة للجماهير، فتراجعت حالة الهجوم السلطوية وتخلت مؤقتا عن استخدام الحلول الأمنية، ولكنها لم تتخل عن نهجها المعادي للديمقراطية ونهج الفساد والإفساد. ظلت الحركة الوطنية بعيدة كل البعد عن التشكيل الحزبي المنظم، وظلت الحركة الوطنية عبارة عن زعامات وتابعين ولا يوجد أي شكل من أشكال التنظيم الحزبي المنظم سوي حزب اتحاد الشعب في الكويت وحزب الاخوان المسلمين الذين عملوا تحت اسم «جمعية الإصلاح الاجتماعي». وفي عام 1991 وبعد التحرير مباشرة تأسس المنبر الديمقراطي وهو ائتلاف يضم حزب اتحاد الشعب والتقدميين الديمقراطيين والتجمع الوطني وشخصيات وطنية مستقلة، في محاولة لتجميع جهود القوي الوطنية تحت مظلة واحدة علنية، ولكن المنبر الديمقراطي الذي لم يتشكل علي أسس حزبية، بدأ مع الوقت يتحول إلي اتجاهات يمينية بل نيوليبرالية أحيانا، وابتعد عن الطبقة العاملة وهموم الجماهير، ثم تشكل لاحقا «التحالف الوطني» وهو بشكل عام يمثل مصالح البرجوازية الكبيرة، ويمثل معا المنبر الديمقراطي القوي الليبرالية الوطنية. سلفية وتشدد وبالطبع كانت ومازالت هناك قوي إسلامية سنية وشيعية منها مجموعات سلفية بعضها غاية في الغلو والتشدد. ولكن القوي الإسلامية لا تشكل كتلة واحدة، كما أن الإخوان المسلمين الذين اصبحوا يعرفون باسم «الحركة الدستورية الإسلامية» (حدس) كانوا ومازالوا يرتبطون منذ ثمانينيات القرن الماضي بمصالح اقتصادية مع السلطة. بينما تحول هم القوي الوطنية الليبرالية إلي هم انتخابي، ولم يهتموا بالمطالب الاجتماعية للجماهير فانعزلوا عنها وأصبحوا أشبه بالتجمعات النخبوية، أي أصبح تركيزهم علي الديمقراطية السياسية وأهملوا وتجاهلوا الديمقراطية الاجتماعية. وفي فبراير 2011 تأسس «التيار التقدمي الكويتي» وهو امتداد لليسار في الكويت، حيث ركز في أهدافه علي التقدم والحرية والعدالة الاجتماعية، وسرعان ما أصبحت له مكانة بين الجماهير والقوي السياسية. وفي سبتمبر الماضي تأسست «الجبهة الوطنية لحماية الدستور الإصلاحات السياسية» ضمت عددا من ممثلي التيارات السياسية وممثلي الكتل النيابية والنقابيين والكتاب وعناصر نسائية وشبابية ومدنية إضافة إلي ممثل للإخوان المسلمين وبعض عناصرهم وغابت القوي الوطنية الليبرالية عن تأسيس الجبهة وعملها. وتم التوافق بالأغلبية علي «إعلان المبادئ». والشعب الكويتي الآن مازال في غمرة الصراع السياسي الذي امتد قرابة القرن، ولن يحل هذا الصراع طالما ظل التناقض الرئيسي لم يحسم بين نهج الانفراد وإدارة الدولة بالطريقة العشائرية وبين بناء الدولة الكويتية الديمقراطية الحديثة، دولة المؤسسات والقانون.