الرأي الصحيح للشعب وعلي النخبة أن تنقاد له بقلم \ نبيل فرج أتيح لعدد كبير من الكتاب والنقاد والصحفيين والمحبين لأدب نجيب محفوظ من المثقفين أن يتعرفوا عليه في مقاهي وفنادق القاهرة والاسكندرية ، وأن يجري الكثير منهم الاحاديث معه. ولأن نجيب محفوظ كان يرحب بكل من يطرق بابه، ولا يصد أحدا، فقد تفاوتت مستويات هذه الاحاديث بتفاوت ثقافة ووعي من يجرونها معه، وبمدي فهمهم لأعماله. ومراجعة الدوريات الصحفية منذ منتصف القرن الماضي تطلعنا علي مئات الأحاديث مع نجيب محفوظ. وقد جمع الكثير من هذه الاحاديث في كتب أو كفصول في كتب. فإذا اضفنا إليها النقد الأدبي والدراسات التي كتبت عن هذا الكاتب العظيم، استوت أمامنا مكتبة لم يظفر بمثلها كاتب في أدبنا الحديث. وعلي الرغم من أنه كان من عادة نجيب محفوظ أن يتحرج من قول الحقيقة الكاملة التي لا يهابها في رواياته وقصصه، إلا أن هذه الأحاديث تفصح أحيانا عن آرائه كما يفصح عنها ابداعه الذي يري فيه ما لا نراه. ويخترق بقلمه، بلا حذر، كل الحدود. وأضرب هنا مثلا واحدا بما جاء في هذا الكتاب الذي اقدمه لكم من رفض نجيب محفوظ القاطع لما يسمي في نظم الحكم بالمستبد العادل، الذي ينادي به توفيق الحكيم، ولا يجد حلا لصلاح الوطن سواه، علي حين يؤمن نجيب محفوظ أن مثل هذا الحاكم يفقد شرعية وجوده، لأن المستبد العادل يقضي علي المعارضة أو الرأي الآخر، ولا يسمع إلا صوته. وليس هناك في معتقد نجيب محفوظ أفضل من السلطة الشعبية، أي الديمقراطية التي توفر النظام الحكم في الدولة المدنية الحرية والعدالة، أو الارادة الحرة والعدالة الاجتماعية. وأيا كان موضوع الأحاديث التي أجريت مع نجيب محفوظ منذ لمع اسمه في الخمسينيات من القرن الماضي، فأعتقد أنه لا غني عنها لمن يريد فهم شخصيته وأدبه، أو من يريد إعداد دراسة عنه. كما أنه لا غني أيضا عن النقد الذي كتب عنه، وكشف خصائص وأسرار فنه. ولهذا ترحب الحركة الثقافة بكل كتاب جديد عن نجيب محفوظ، يتألف من أحاديث معه، أو من نقد لانتاجه. وانشاء مركز باسم نجيب محفوظ في المجلس الأعلي للثقافة، الذي يصدر دورية خاصة به منذ سنة 2008. دليل علي تفرد هذا الكاتب في تاريخنا، ومدي اهتمام الثقافة العربية به، بكل اتجاهاتها وتياراتها. والكتاب الذي نعرض له في هذه المساحة من اعداد محمد الجمل عنوانه «نجيب محفوظ في ليالي سان ستيفانو». صدر عن وكالة الصحافة العربية بالهرم في 117 صفحة من القطع المتوسط، بعد ربع قرن من حفظه في جهاز التسجيل. ومحمد الجمل أديب سكندري يكتب القصة القصيرة والرواية والمسرحية. وله عدد من المسلسلات الاذاعية والدراما التليفزيونية والمتابعات الصحفية. بدأ حياته الأدبية في سن الثانية والأربعين، بعد أن احيل في 1977 إلي التقاعد من الخدمة العسكرية في القوات المسلحة برتبة عميد. وتعتبر البداية الأدبية في هذه السن متأخرة جدا، لأن موهبة الكتابة، ككل المواهب، تنبثق عادة مع تفتح الذهن والمدارك علي العالم، في العقد الثاني من العمر، لا في العقد الخامس. ولو اتخذنا من نجيب محفوظ مثالا، فقد بدأ الكتابة سنة 1928، في سن السابعة عشرة. ومن قبل هذا اليوم لم يكن هناك شيء يشغله في حياته غير الأدب والفن. ويبدو أن ابتعاد محمد الجمل عن الحياة الثقافية حتي هذه السن كان مصدر قلق شخصي له، لا يستطيع اخفاءه. وهذا ما دفع نجيب محفوظ بدماثته المعهودة، كما يذكر محمد الجمل في كتابه، إلي تطييب خاطره. أو حسب ما ورد في الفصل الأول من الكتاب، إلي تشجيعه بقوله أن برناردشو بدأ الكتابة المسرحية في الأربعين من عمره. والحق أن برناردشو لم يبدأ في هذه السن، ولكن الشهرة التي أصابها هي التي تأخرت. ولهذا طلب أن يعيش إلي المائة حتي يشبع من هذه الشهرة. أما حياته قبل هذه الشهرة فكانت جهادا متواصلا في تحصيل المعرفة والكتابة الصحفية. ومع أن كتاب الجمل يفتقد المنهج والتصميم المحكم، أو كما وصفه بدقة في صفحة 98 بأنه اسئلة مبعثرة لا يربطها موضوع واحد، فإن القارئ يستطيع من خلال هذا الشتات- إن صح التعبير- أن يخرج بفضل وعي الجمل بالأصول الفنية للأشكال الأدبية بمجموعة من الأفكار يتصل بعضها بالجوانب الذاتية أو النفسية في شخصية نجيب محفوظ، مثل وسوسته أو شكه فيما يكتب، وموقفه من السياسة في بلاده، وخلقه الرفيع في السلوك الذي يستنبط منه معانيه. وعلينا أن نتذكر دائما أن صاحب هذا الشك أو الوسوسة، الذي لم يقف أبدا موقف القضاة، هو الكاتب العربي الوحيد الحائز علي جائزة نوبل، أرفع تقدير في العالم، لكي يطامن الكتاب شيئا من غلوائهم ومن كبريائهم ومن ثقتهم غير المحدودة بما يكتبون. والدرس المستفاد أيضا من نجيب محفوظ أن التواضع شيمة القوة والحكمة، لا الضعف والقصور. أما الأفكار الأخري التي ترد في الكتاب بلا ترتيب وبلا تعمق، فلعل أهمها إيمان نجيب محفوظ الوطيد بالمدنية والحضارة، لأنها المناخ الملائم لظهور المواهب وارتقاء المجتمع، وسنة التطور التي تقترب فيها آيات الفكر بالكفاح العملي، وليست قابلة للتراجع علي خلاف ما يثبته التاريخ من أن المدنيات والحضارات ككل الكائنات الحية تولد وتنمو وتموت بتبدل العصور ومرور الأيام، وفق نظرية ابن خلدون في القرن الرابع عشر، التي نجد ايماءات لها في أدب نجيب محفوظ. ومن آراء نجيب محفوظ أن من لم يتكيف مع التحديث يتعرض للخسارة. وعن شخصية المبدع فإنها تتكون من عنصرين أساسيين: فرديته ونمط الحياة المعاصرة. الفردية هي الإرادة الفنية والحساسية الخاصة. ونمط الحياة يعني الوسط الذي ينتمي إليه ويتواصل معه المبدع. ولاهتمام نجيب محفوظ بمشاكل مجتمعه ومستقبل هذا المجتمع. لم يكن يحفل بالمذاهب السيريالية والعبث واللامعقول، لعدم ملاءمتها لفكرنا، وخلوها من المضامين الإنسانية التي تؤكد التواصل بين البشر، وليس مشاعر الغربة، معتمدا في هذه الرؤية علي مقياس واحد هو تقبل الناس لها. ونجيب محفوظ في هذا الكتاب يجعل الرأي الصحيح للشعب. وعلي النخبة أن تنقاد له، بينما كان الوضع السائد قديما، في كل الأدبيات، علي العكس، ينقاد الشعب لهذه الفئة التي تتباهي بنفسها، ويفترض انها تقود القاطرة. ويلفت النظر في هذه الأحاديث رأي نجيب محفوظ في النقد والنقاد. وربما كانت هذه هي المرة الوحيدة التي يحتد فيها نجيب محفوظ في تعليقه علي ما قاله عنه لويس عوض من أنه كتب ثلاثية «بين القصرين» تحية أو تملقا لثورة 1952 التي ثارت علي مجتمع ما قبل الثورة. وهذا عند نجيب محفوظ حكم متسرع وغير صحيح لناقد له حساباته، لأن الثلاثية ببساطة كتبت قبل الثورة. وأضيف أن نجيب محفوظ لو كان حقا يريد تملق الثورة بعرض صفحات من مآسي الماضي لما توقف عن الكتابة بعد قيامها خمس سنين، كان يمكن استغلالها في هذا الغرض، ولما كتب بعد ذلك العديد من الروايات والقصص التي تندد بالأخطاء التي ارتكبتها هذه الثورة، وبالروح الانهزامية التي سادت بعد 1967. ولاشك أن رفض نجيب محفوظ القاطع لما قاله لويس عوض عنه كان دفاعا عن أدبه، وعن موقفه من هذه الثورة التي أعلن تأييده لها، في كفاحها الوطني من أجل التحرير والتنمية وتذويب الفوارق بين الطبقات وغيرها، مثلما كان من أكبر نقادها في حكمها الفردي المطلق الذي أهدرت فيه حقوق الإنسان. وكان أمام محمد الجمل فرصة جيدة جدا لمناقشة نجيب محفوظ حول هذه الثورة التي نقدها نقده للعهد الملكي السابق عليها، ولم يحمل لها قط المباخر، أو يتحول إلي عاشق متيم لا يري سلبيات حبيبته. ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي يرفض فيها نجيب محفوظ حكما نقديا للويس عوض علي أدبه. ففي حديث آخر أجري معه قبل هذه الأحاديث بسنوات، رفض نجيب محفوظ وصف لويس عوض لأدبه بأنه كلاسيكي في الشكل رومانسي في المحتوي. ورد علي محاوره بأنه ككاتب غير تقليدي لا يحب التردي في المذاهب، وأنه يأخذ من كل المدارس الفنية ما يشاء لأعماله، وليس فقط من الكلاسيكية أو الرومانسية التي يقصره عليها لويس عوض. وهناك أيضا من الموضوعات التي كان يمكن معرفتها في هذه الأحاديث تكوين نجيب محفوظ الثقافي الذي لم يتجاوز في الكتاب كلمات عامة لا تزيد عن أسماء بعض الكتاب الأوروبيين، وقراءاته للشعر العربي القديم، والأدب المصري الحديث، دون تحديد هذا الشعر أو نصوص هذا الأدب الأوروبي أو المصري. ويتفرغ عن هذا سؤال نجيب محفوظ عن إلهامه الذي لا ينضب. كما يتصل بالإلهام النبع الصافي الذي يستقي منه نجيب محفوظ طاقته الشعرية التي تتجلي في مونولوجات الشخصيات التي تبحث عن نفسها، وفي بداية الروايات ونهايتها، وهذه القدرة الفذة علي الموضوعية التي تقف بحياد تام إزاء المفارقات والمتناقضات والصدف أو الاقدار. علي أن مثل هذه الاسئلة عن القراءات يجب أيضا أن يرتبط بها سؤال عن خبرة الحياة، لأنه من الواضح جدا أن ما اكتسبه نجيب محفوظ من الخبرات يفوق ما اكتسبه من القراءات في الأدب والفلسفة. ويذكر كتاب محمد الجمل ضمنا، في اشارات خاطفة، أن نجيب محفوظ من المبدعين الذين يرفعون من شأن الجماليات. وفي تقديره أن الفن والخيال لا يخضعان للواقع، ولكن الواقع هو الذي يجب أن يخضع للفن والخيال. وهذا هوالفرق بين الخلق والإلهام، وبين الكاتب العظيم وصغار الكتاب.