المبدع هو اكثر الناس حظا لأن رحيله لا يعني انقضاء دوره في الحياة، فعندما يرحل الجسد تبقي روحه متمثلة في اعماله محلقة حول الجماهير، ولا سيما اذا كان يحمل وجهة نظر جديرة بالاحترام ومشروعا فنيا عريقا ومثمرا. غيب الموت محمد نوح (75عاما) بعد عناء مع المرض، لكنه سيظل عنوانا للتفرد ليس علي مستوي الغناء والتلحين وانما كواحد من اعمدة الفن في الوطن العربي، ناقدا ومحللا وعازفا ومواطنا قبل كل شيء يعشق وطنه ويتفاعل مع كل ما يحدث له. لو كان في قلبك شيء قوليه الحزن هيفيدك بايه يا سكة مفروشة بامل مشوارنا حطوا العزم فيه يا بلدنا سيبك م الدموع قوم اقلعي توب الخضوع ده الحق لسه بيتجلد مدد مدد هكذا كان يغني، ورغم ان الكلمات معبرة ومحرضة، تحرك السكون والخنوع القابع في الارجاء، يأتي الغناء ليزلزل الارض ويعيد ترتيب مفردات الانتفاض والثورة بصوته الشجي المعبر الذي يذوب في المعاني وينطلق في الصدور المشتاقة . كانت اغنياته “مدد” و “شيلي طرح الحزن السوده” و “من صغر السن ” في الفترة من68 حتي سنة 70، وهي الفترة التي انتشرت فيها اغاني “الطشت قاللي” و “انت اللي قتلت بابايا” والغريب أن اغنياته مورس عليها المنع والتعتيم وأفسح المجال لكل الاغاني التي غيبت العقل. فلم يكن الطريق ممهدا بعد النكسة لتغيير الذوق العام الذي تدني، وان كان ذلك تغير بعد نصر اكتوبر. أول الغيث كان في المسرح الغنائي ممثلا ومطربا في مسرحية «سيد درويش» 1966، أجاد العزف علي عدة آلات موسيقية بينها البيانو والعود والكمان والناي. ولحن كثيرا من الموشحات والاغاني للعديد من نجوم الغناء، أمثال : نجاح سلام وعلي الحجار ومحمد الحلو ومحمد ثروت وعفاف راضي، وظهر نبوغه وتفوقه في الموسيقي التصويرية لعدد كبير من الأفلام الفنية، وكانت له تجربة اخراجية وحيدة من خلال فيلم «رحلة العائلة المقدسة». كون فرقة موسيقية اطلق عليها اسم «النهار» وقدم من خلالها موجة جديدة من الأغاني الوطنية الحماسية، ثم أعقبها بتكوين فرقة من افراد عائلته، اشترك في عدد من الأفلام السينمائية «الزوجة الثانية» و«السيد البلطي» عمل محمد نوح أستاذا للصوتيات بمعهد السينما وله الكثير من الأبحاث في الموسيقي الفرعونية والتاريخ الفرعوني واللغة المصرية القديمة، قام بتلحين وتأليف واخراج مسرحية «سحلب». ومن المصادفات التي لا أنساها وهي أن جمعتني بالراحل ورشة عمل عن تطوير التعليم الابتدائي اقيمت بالعين السخنة في اواخر التسعينيات، وربما يبدو من أن العنوان أنه غريبا بالنسبة لاهتمامات فنان، ولكن الأمر لا يبدو غريبا عندما يقترن بمحمد نوح المهموم بوطنه ومشاكله، ورغم أن الورشة ازدحمت بالمتخصصين الذين قدموا ابحاثا عدة للنهوض بالتعليم، ظل محمد نوح محل اهتمام الجميع لما كان يطرحه من افكار ورؤي كانت تلقي اهتماما كبير داخل الاجتماعات، اما بعد انتهاء المناقشات كان الجميع يلتفون حوله في محاضرة تثقيفية عن الموسيقي ومدارسها المختلفة في العالم وأشهر المؤلفين الموسيقيين الذين اسهموا في النهوض بها، ثم يفتح الحوار للاسئلة حول أي شيء يتعلق بالموسيقي، فقد كان يري أن النهضة العلمية لابد أن تصاحبها نهضة موسيقية ترقي الذوق وتهذب الأذن مما تسمعه. تعرض محمد نوح لتجاهل من وسائل الاعلام وبعض الشخصيات التي كانت لا تعجبها آراءه وانتقاداته المستمرة ، خصوصا في الفترة التي كان يكتب فيها بصحيفة الوفد، واقتصر الاهتمام علي اسماء بعينها من المحاسيب الذين احتلوا المشهد بكامله، لكنه لم يخفض الرجل رايته ولم يداهن وظل وافيا لقناعاته ومبادئه، وعندما اشتد المرض عليه انزوي وفضل الاحتجاب، راضيا بما قدمه، رغم انه كان لديه الكثير، وفي السطور التالية – التي قالها في مذكراته – ربما يجد القارئ معاني كثيرة وحقائق أكثر حول أزمته الحقيقية « الابداع لا يشيخ ابدا لأنه مرتبط بالعقل الإنساني والعقل بطبيعته لا يكبر بالعكس فهو ينضج ويفهم أكثر كلما مر الوقت عليه لكن الجسد يشيخ ويكبر حتي يصل الي المرحلة التي يفقد فيها قدرته علي الحركة وهنا يفقد الإنسان رغبته في الحياة و هذا هو ما أشعر به بالضبط فأنا وصلت الي المرحلة التي فقدت فيها الرغبة في الحياة واصبحت انتظر الموت وكأنه موعد مبهج مع صديق افتقد رؤيته من زمن طويل ».