حط الطائر المغرد بعد أن أنهكه العياء فسكت عن التغريد الشجي، وأطبق الصمت علي المكان، واستولي علي الحضور الاندهاش والانقباض والحزن.. وانتشر الخبر البائس في الأرجاء ليعم النحيب والبكاء لفقدان العزيز حلمي سالم الذي ترك لنا فراغا كبيرا وحيرة أكبر لم تلملم حتي الآن، فقد اعتاد الجميع رؤيته في أروقة الجريدة بشوشا متفائلا يوزع ابتساماته هنا وهناك ودون تحفظ حتي وهو في أشد حالات مرضه. من الأشياء البغيضة التي يخلفها تقدم السن هي رثاء الأحباب وهم يتساقطون واحدا تلو الآخر.. ربما يكون عزاؤنا الوحيد هو أن عشرتنا معهم كانت جميلة ورحبة، اتسعت فيها مساحات التسامح والغفران حتي تلاشت البغضاء ، واليوم تدهسنا الصدمة برحيله، وكان واحدا من هؤلاء الرائعين المتسامحين الذي سكن وجداننا وافئدتنا طوال عشرته معنا، فقد غيبه الموت عنا لنفتقد ألفته وطلته الطيبة الحنون. تبقي المودة والحميمية هي الغطاء الاخير الذي نتدثر به من كل المنغصات التي تحيق بنا، وتتجلي هذه الحميمية في الكبار الذين يمدوننا بالأمل والطمأنينة، وكان حلمي سالم واحدا من هؤلاء، كثيرون رحلوا سعيا وراء فرص رزق رحبة ضنت بها الظروف المتاحة، وقليلون اثروا البقاء ولم تغرهم الاغراءات الخارجية وادركوا بيقين ثابت وايمان لا حدود له أن الرحلة التي بدأت لابد أن تنتهي في ذات المضمار الذي استوعب أحلامهم وطموحاتهم وشبابهم وشيخوختهم ومعاناتهم وكان حلمي سالم واحدا من هؤلاء العظام. لم تنفصل خصال الشاعر الرقيق حلمي سالم داخل القصيدة عن خارجها، فقد ظل الرجل وفيا لقناعاته ومبادئه ولم يتلون، وظلت طباعه كما هي هادئة وديعة مسالمة تعشق الجمال وتظهره وتهذب القبح، وعندما نجهد الذاكرة للبحث عن موقف كان فيه ثائرا أو غاضبا فنحن بذلك نرهقها دون جدوي وبلا أي أمل. اينما تواجد كان الكلام حلوا والنقاش ملهما والفكاهة حاضرة دون اسفاف. كان أشبه بطائر التسامح الذي يحلق فوق محبيه واصدقائه لينقي اجواءهم ويحرضهم علي الحب والعطاء، فقد تمتع بصداقات حقيقية مع الجميع، واحتفظ بعلاقات طازجة مع الكبير والصغير ودون اي فوارق، وعندما يرحل تفقد «الاهالي» أحد ملامحها الجميلة والاصيلة، ولأن الحياة حق والموت حق، فلا حول ولا قوة إلا بالله.