ظهر مصطلح”العلمانية”في مصر إبان ما عرف بعصر النهضة في أواخر القرن الثامن عشر؛ حيث تعاظم الصراع الفكري بين التقليديين و المجددين الذي انتهي_للأسف_بغلبة التقليديين الذين تبنوا الفكر الإسلامي في طور الانحطاط بزعم الحفاظ علي”الموروث”الذي دشنه”الأشعري”,و من بعده”الغزالي”,و بلغ ذروته علي يد”ابن تيمية” .أما”المجددون”فقد تبنوا الموروث العقلاني الذي يمثله”المعتزلة” و”جماعة إخوان الصفا”و فلاسفة الإسلام؛ خصوصاً فلسفة”ابن رشد” التي مرت علي العالم الإسلامي_للأسف_كسحابة صيف عابرة.و لم يجدوا حرجاً في الانفتاح علي الفكر الأوروبي العقلاني التجريبي”الوافد”؛ باعتباره فكراً إنسانياً. تماماً كما انفتح أجدادهم خلال القرن الثاني الهجري علي”علم الأوائل”في عهد الخليفة”المأمون”الذي بني”بيت الحكمة” في بغداد و استعان بجيش من المترجمين السريان و الروم و الفرس في ترجمة التراث الكلاسيكي الفارسي و اليوناني و اللاتيني و الهندي.فقدر للمسلمين العرب الاطلاع علي تراث معرفي متنوع لم يكن لهم عهد به من قبل. خلال هذا الصراع”اللا متكافئ”بين هذين الاتجاهين,و لعجز الاتجاه التقليدي عن مواجهة المجددين؛ جري اتهام الآخرين بالزندقة و الإلحاد.و هو ما درج عليه”الإسلاميون”المعاصرون؛ دون أدني فهم للموروث و الوافد علي السواء.و قد ظهر ذلك جلياً خلال الحوار الذي جري بين الإمام”محمد عبده”و”فرح أنطون”الذي اعتبره التقليديون ناقلاً العلمانية من أوروبا بهدف الطعن في الإسلام.و نظراً لأن الاتجاه التجديدي قد تبناه مفكرون أجانب وافدون؛ بعضهم مسلمون مثل”الأفغاني”,و معظمهم مسيحيون من أمثال”أديب إسحق”و”فرح أنطون”و”شبلي شميل”و”يعقوب صروف”فضلاً عن مصريين من أمثال”ولي الدين يكن”و “إسماعيل مظهر”؛ نظراً لذلك اعتبر”الإسلاميون”المعاصرون العلمانية محض كفر و ضلالة؛ لا لشيء إلا لتبشيرهم بالحداثة الغربية,و ربطها بالاتجاهات و التيارات الليبرالية والعقلانية و العلمية التجريبية التراثية التي بلغت أوج ازدهارها إبان القرنين الرابع و الخامس الهجريين بفضل سلة من العلماء الأفذاذ من أمثال “ابن الهيثم”و”ابن سينا” و”البيروني” و”الخوارزمي” و”جابر بن حيان” وغيرهم. وعلي الرغم من الحملة الضارية التي شنها التقليديون علي العلمانية كان لها تأثير واضح في الأجيال التالية؛ اذ تبناها مفكرون كبار قاموا بدور مهم في تنوير العقل العربي؛ من امثال”طه حسين”و”علي عبد الرازق”و”لطفي السيد”و”سلامة موسي”وغيرهم من أعلام النهضة المصرية في القرن العشرين. و نحن نري أن انتصار الفكر السلفي الموروث كان نتيجة العامل الاقتصادي _الاجتماعي الذي يتمثل في هزال الطبقة الوسطي التي تقود دائماً حركة التغيير و التطور؛ و من ثم التجديد علي صعيد الفكر و الثقافة. و ما نود تأكيده في هذا المقال أن الإسلام _عقيدةً و شريعةً و حضارة_لا يصادر علي العلمانية؛ بل يتبناها و يحض عليها. فعقيدة الإسلام أنزلت”للعالمين”,و لم تصادر علي الأديان السماوية؛ بل اعتبرت الإيمان بها من شروط الإسلام؛ بما يؤكد تبني المبدأ العلماني الذي يتعلق بحرية الاعتقاد”من شاء فليؤمن و من شاء فليكفر”.و إذا كانت العلمانية الغربية بمثابة ثورة ضد”الكهنوت”؛ فالإسلام يعتبر التدين علاقة بين العبد و ربه دون وسيط. و إذا كانت علمانية الغرب تستهدف”الإنسان”بالتكريم؛ فقد قدم الإسلام أعظم صور التكريم للإنسان علي الإطلاق,و اعتبره أعظم ما خلق الله علي الأرض,و أناطه بمهمة عمرانها,“و لقد كرمنا بني آدم”.و إذ تصدت العلمانية الغربية للفكر الكنسي اللاهوتي و قوضته لتؤسس للفكر العقلاني و المنهج العلمي التجريبي الذي يقود إلي “اليقين”؛ فقد سبق الإسلام إلي ذلك فيما ورد في القرآن الكريم من آيات ترفض”التقليد”,و تحارب”الهوي و الظن”بما يقود إلي”الحق”و”اليقين” و تؤسس لرسالة العلماء_ورثة الأنبياء_في الكشف عن أسرار الطبيعة و جوهر الإنسان وفق منهج علمي قوامه التعويل علي الحس و علي العقل كأداة للمعرفة,و اعتبرت جهود العلماء في هذا الصدد أسمي أنواع العبادة,فالعلماء”ورثة الأنبياء”. و إذ دعت علمانية الغرب إلي فصل الدين عن الدولة”فما لقيصر لقيصر و ما لله لله”؛ فقد قدم الإسلام ما يميز بين”عالم الغيب”و”عالم الملك”. وما يعنينا أن”عالم الملك”أو”الشهادة”هو عالمنا الأرضي الذي أوكل إلي الإنسان -خليفة الله علي الأرض و سخر كل المخلوقات لخدمته- رسالة عمرانها بالعلم و العمل حتي”تبلغ زينتها و زخرفها”. وحين خلق الله العالم فقد جعل ما يجري فيه محكوماً”بنواميس”و”سنن” -أي قوانين-”فلكل خبر مستقر”. ودعي الإسلام الإنسان -الذي كرمه بزينة “العقل”إلي اكتشاف حقيقته الإنسانية,فضلاً عن البحث في علل الطبيعة موظفاً ما أعطاه الله من ملكات و قدرات فطرية؛ ليقف علي قدرة الله و إبداعه لمخلوقاته”في أحسن تقويم”. لذلك_و غيره الكثير -أبدع المسلمون- وفقاً لهذا التوجه الإسلامي “العلماني” -حضارة سادت العالم خلال العصور الوسطي,ونقلت أوروبا إلي العصور الحديثة؛ و هو ما اعترف به مفكرون غربيون عظام من أمثال”أرنولد توينبي”و”جورج سارتون”و”ول ديورانت”. لذلك كله -و غيره كثير لا يتسع المقام لسرده- ندعو”الإسلاميين”المعاصرين إلي حوار بناء بصدد تلك الأطروحة؛ بدلاً من اللجاج المتشنج و كيل الاتهامات الكيدية للعلمانية و االعلمانيين.. !! http://www.al-ahaly.com/2012/07/24/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-1-2-%D8%A7%D9%84%D8%B9/