إذا كانت الثورات تغير من خريطة العالم السياسية والاجتماعية فإنها أيضا تغير من الإبداع، وتؤثر في أنواعه المختلفة، ملقية بظلالها علي مناهجه ومدارسه، بل وتكون – أحيانا – دافعة لتغيير تلك المدارس والمناهج باستحداث نظريات جديدة، فالثورة الفرنسية – مثلا – جاءت بمدارس جديدة في التفكير الفلسفي بداية من جان جاك رسو صاحب كتاب «العقد الاجتماعي»، وكانت دافعا لاستحداث فنون إبداعية ذات طابع تمردي مثل قصيدة النثر علي يد «بودلير» صاحب ديوان «أزهار الشر»، والثورة الروسية صاحبتها ثورة إبداعية أيضا في فنون الشعر علي يد مايا كاتسكي والسينمائية علي يد ايزنشتين. وفي مصر أثرت الثورات المختلفة بداية من الثورة العرابية في تغيير الذائقة الأدبية، بدأت بمدرسة الإحياء في الشعر علي يد محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وبداية النهضة في الفكر العقلاني – مع ثورة 1919 – علي يد فرح أنطون وشبلي شميل وطه حسين وعلي عبدالرازق وسلامة موسي وقاسم أمين. وجاءت ثورة 23 يوليو بمرحلة أدبية مختلفة قائمة علي رؤية تجريبية حداثية، خلخلت البنية الإبداعية كلها لتصنع أفقا مغايرا، علي مستوي الشكل والمضمون. ففي مجال الشعر بدأت «ثورة الشعر الحديث» والانتقال من العمود الشعري بأغراضه المتعارف عليها منذ العصر الجاهلي.. إلي فضاءات أرحب مع الاعتماد علي «الشعر الحر» أو «شعر التفعلية» علي يد صلاح عبدالصبور في ديوانه الأول «الناس في بلادي» 1957 وأحمد عبدالمعطي حجازي في ديوانه «مدينة بلا قلب» 1959، والديوانان يشكلان حجر الزاوية في هذه التجربة وإن صاحبهما تجارب متفرقة ومتناثرة بدأت بقصائد لعبدالرحمن الشرقاوي وكامل أيوب وعبدالمنعم عواد يوسف ومحمد مهران السيد، وملك عبدالعزيز وغيرهم. ولم تكن «ثورة الشعر الحديث» ثورة علي الشكل فقط بل كانت ثورة علي المضمون الشعري، فخرج الشاعر من برجه العاجي إلي الشارع ليلامس أوجاع الناس وهموم البسطاء، وأصبحت القصيدة حالة من السجال والحوار الدائم بين الذات والمجموع، وبين الأنا والآخر، ودخلت فيها مفردات يومية وتفاصيل حياتية، فأصبحت لا تقرأ بمعزل عن الواقع الحياتي السياسي والاجتماعي والثقافي. كما ازدهرت بعد الثورة فنون السرد، فتطور فن الرواية تطورا ملحوظا، فإلي جانب الرواية الرومانسية التي كان يكتبها إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وأمين يوسف غراب ومحمد عبدالحليم عبدالله، ظهرت الرواية الواقعية بداية من رواية «القاهرةالجديدة» لنجيب محفوظ، وإن كان قد توقف بعدها لأكثر من خمس سنوات ليكتب بعدها روايته «أولاد حارتنا» والتي نشرها عام 1957 مسلسلة في جريدة الأهرام، بالإضافة إلي تجربة يحيي حقي الرائدة في هذا المجال. وقد بلغ هذا التطور ذروته – بعد ذلك بسنوات قليلة – مع جيل الستينيات والذي برزت منه مجموعة الأسماء المهمة أمثال صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وإبراهيم أصلان وخيري شلبي وإدوار الخراط وصبري موسي ومحمد البساطي وغيرهم. مسار أكثر خصوصية أما فن القصة القصيرة فقد مسارا أكثر خصوصية ومصرية أيضا علي يد يوسف إدريس بداية من مجموعته «أرخص ليالي»، وكذلك يوسف الشاروني في مجموعته «العشاق الخمسة» وعلي مستوي النقد الأدبي ظهرت تجارب شديدة الخصوصية بما امتلك أصحابها من رؤي ثاقبة وثقافة موسوعية أمثال الراحلين الكبار رجاء النقاش ود. علي الراعي ود. علي شلش ود. غالي شكري ومحمود أمين العالم، الذين واصلوا ما بدأه في الأربعينيات والخمسينيات د. محمد مندور. وفي المسرح – المكتوب والمعروض – حدثت طفرة نوعية كبيرة، فازدهر هذا الفن ازدهارا ملحوظا، فتحرر من تقليديته التي عاش فيها لأكثر من خمسين عاما، وانتقل من «الريبورتوار» وإعادة المسرح العالمي، إلي محاولة لخلق مسرح مصري له خصوصيته فظهر جيل من الكتاب والمخرجين أخذوا علي عاتقهم التحديث والتجريب للوصول إلي رؤية مصرية خاصة ومن هؤلاء محمود دياب صاحب «ليالي الحصاد» و«أرض لا تنبت الزهور»، وميخائيل رومان صاحب مسرحية «الدخان» وغيرها، ونجيب سرور صاحب «منين أجيب ناس» و«ملك الشحاتين» وغيرها، وقبلهما نعمان عاشور رائد الواقعية في المسرح المصري وصاحب «الناس اللي تحت» و«الناس اللي فوق»، وألفريد فرج الذي استلهم التراث العربي القديم لتقديم مسرح جديد فيه من النقد السياسي والاجتماعي برؤية فنية. واكب ذلك ظهور مجموعة من المخرجين الذين أثقلوا الموهبة بالدراسة النظرية أمثال كرم مطاوع وسعد أردش وعبدالرحيم الزرقاني وأحمد عبدالحليم الذين سافروا في بعثات إلي أوروبا لدراسة فنون المسرح الحديث ثم عادوا إلي مصر ليطرحوا فضاءات مغايرة أدت إلي ازدهار الحياة المسرحية بما امتلكوه من جسارة. تحولا جذريا وفي مجال شعر العامية – نجد أن هذا المجال تحديدا قد شهد تحولا جذريا في شكل الشعر الشعبي، قفز قفزة نوعية من فن الزجل والذي كان بلغ ذروة تألقه علي يد «بيرم التونسي»، إلا أن مسمي شعر العامية لم يظهر إلا في ظل ثورة يوليو 1952، وكان أول من حدث في شكل الزجل، ليحوله مباشرة إلي الشعر الحر هو فؤاد حداد ومن بعده صلاح جاهين، ثم – بعدهما – بسنوات قليلة ظهرت أصوات مغايرة ومتميزة في هذا المجال مثل عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب ومجدي نجيب. ولم يكن التغيير في الشكل فقط بل في المضمون كذلك، وفي التعدد فكل واحد من هؤلاء كان له صوته الخاص ومنطقته الخاصة التي يكتب من خلالها، ففؤاد حداد تميز بلغته القوية، التي تضفر الفصحي بالعامية، وكان أقرب إلي حس المقاومة الشعبية، فشعره أشبه بصوت الحرية المنطلقة في الآفاق، وقد عاني من المعتقلات قبل الثورة وبعدها، وهو أغزر شعراء العامية علي مدي تاريخها فقد أنتج ما يقرب من 60 ديوانا شعريا، وهو الأب الشرعي لهذا الفن. شاعر الثورة أما صلاح جاهين، فهو الفنان المتعدد المواهب، قلما يجود الزمان بمثله، الشاعر الذي ألهب مشاعر الملايين وهو شاعر ثورة يوليو الأول وصوتها الذي بشر بمبادئها في أشعاره وأغانيه التي تغني بها كبار المطربين أمثال أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ومحمد قنديل وفايزة أحمد وقد تعلقت الملايين بإنتاجه الفني والإبداعي لأكثر من ثلاثين عاما، وأصبحت أغانيه تتردد علي كل ألسنة فكأنها أناشيد شعبية، لأنها خرجت من روح صادقة فوصلت إلي كل . أما عبدالرحمن الأبنودي – القادم من صعيد مصر – فمنذ ديوانه الأول «الأرض والعيال» قدم تجربة تنحاز إلي البيئة الشعبية – خاصة في صعيد مصر – وتتميز تجربته بجرأتها وتعدد فضاءاتها، وغزارتها أيضا، وتعدد الأصوات داخل القصيدة الواحدة، كما في دواوينه «وجوه علي الشط» و«جوابات حراجي القط» وغيرها. أما سيد حجاب – فهو صاحب الأرابيسك الشعري فكل قصيدة يكتبها تشبه الأيقونة، فهو يزخرف بالكلمات منذ ديوانه الأول «صياد وجنيه»، وهو صاحب حضور قوي في الأغنية التليفزيونية، وهو امتداد لمدرسة فؤاد حداد في الشعر، فكلاهما صاحب لغة قوية واهتمام بالقاموس اللغوي، وكلاهما أيضا عاشق للتراث العربي.