تتضمن مجموعة "نداهة المنيل" الصادرة عن بيت الحكمة للثقافة للكاتبة تاميران محمود اثنتين وعشرين قصة، تعالج المتغيرات الثقافية التي شهدها الجيل الحالي ورصدها في واقعه المتصل بحركة العالم التي لا يقر لها قرار في الصيرورة الفارضة لأنماط من الحياة والرؤى والسلوك لم تشهدها الأجيال السابقة، وسط هذه التحولات يطرح المكان فكرة الثبات أو مفهوم جماليات الحضور في مواجهة السيولة الزمنية، لذلك يكتسب المكان تكويناته الجمالية الدالة على العمق الثقافي الذي تقتنصه الكاتبة لتضعه في مقابل التجدد غير المحسوب في الحياة العصرية. يظهر المكان بوصفه المقوم الروحي الذي يسري في ذاكرة المنتمين إليه، هؤلاء الذين عاشوا في أجوائه وهم يمارسون سلوكًا نابعًا من الحياة المتكررة داخل إطار له نسقه الذي يدعم الاستقرار النفسي ويضمن التضام المجتمعي بخاصة "نداهة المنيل" التي حملت المجموعة عنوانها، فهي معارضة لرواية "نداهة القاهرة" التي كتبها الفرنسي بيير جازيو، وقد ترجمتها إلى العربية أريج جمال، وفيها يهتم جازيو بشخصية فتى الشارع المشرد، ويتخذ من حي المنيل الجميل المطل على النيل أحد فضاءات الأحداث السردية، ترفض تاميران رؤية جازيو الذي يختصر الحي في كونه مستقبلًا لمشردين لا ينتمون إليه ويعانون أشكالًا من القهر المجتمعي، الراوية في القصة تنتمي إلى المكان بجمالياته التي أرست ثقافته حتى لو ظهرت في هذا الفضاء شخصية مشردة فهي تنتمي للمنطقة ويتعاطف معها أهلها وتشاركهم حياتهم على عكس الغريب الذي احتفى به جازيو. هنا نرى المكان من منظورين: منظور الوافد ومنظور المقيم، فالوافد يبحث عن الغرائب والطرائف والصور النمطية التي ترضي من يوجه إليه الخطاب، ويبدو أن الآخر الغربي يريد أن يرى الشرقي بهيئة معينة فيها تلك المعاناة الروحية والاجتماعية التي تنتهي بالضياع حين تبتلع المدينة أبناءها والحالمين بتحقيق الذات فيها من ضحايا الضواحي، أما الذات التي تنتمي إلى المكان، بخاصة النسوية، فهي تحنو على الشخصيات، وتستخلص أجمل ما فيها وتصلها بثقافة المكان وتاريخه وعراقته، فنجد في القصة السلوك الأبوي الذي تعلمت منه الراوية احترام الحياة والتفاعل مع كل من يقصد الحي بشكل إنساني فيه الرقي غير المفتعل، مع ملاحظة دمج الكاتبة بين الهوية النسوية والتعلم من الثقافة الذكورية دون خصام أو قطيعة، وهذا التصور يناقض ما اختاره جازيو وأضاف إليه من خياله ما يناسب ذوق القارئ الذي يرى حي المنيل برؤية فرنسية. تلك مشكلة الصورة التي تحاول كل ثقافة أن ترى الآخر بها، فإن لم تجدها صنعتها "كما يرى نزار بصدد الحب"، فالغريب أن صناعة الصور لا تقارب بين البشر بالدرجة التي كان الإنسان يظن أنها ستحدث لأن الصورة لا تأتي من الخارج فقط بقدر ما تولد في الذهن من مكتسبات ثقافية مؤثرة في عين الرائي ومتخيلاته وأسلوبه التعبيري، وهذا مجال خصب للدراسات الثقافية المقارنة. وقصة نداهة المنيل تعد تعبيرًا جماليًا عن ثقافة المكان، بما يضع الفضاء السردي في ذاكرة القارئ بوصفه إحالة شعرية إلى الفضاء الطبيعي الموجود في جغرافيا الواقع أي أن العلامة القصصية "نداهة المنيل" تمتد بالوجود المكاني إلى آفاق متنوعة في أذهان قراء بعضهم يعرف المكان الواقعي وبعضهم لا يعرفه، مثل هذه الأعمال تعد قيمة جمالية مانحة للأمكنة حضورًا في الذهن المثقف عبر المكان، فهي مثل الصور التي يتبادلها السائحون مع عائلتهم وأصدقائهم فتنشر ثقافة عشق الأمكنة في خريطة التلقي، وكثير من الأماكن تتحول إلى مزارات سياحية إذا توفر لها الدعم السردي من المبدعين الذين ينتمون إليها. وهناك قصص تظهر فيها أزمة الذات حينما تتعرض للحياة بين مكانين مثل قصة "في الصالة" التي تجمع الأسرة الكبيرة في صالة منزلية صغيرة، ثم يحدث التصور الاقتصادي فيخرج أحد الأفراد بأسرته إلى المنتجعات الجديدة في عالم مغلق هادئ لكنه يفتقد الحيوية مما يجعل زمن الصالة القديم حلم يقظة يعيش فيه مقاومًا الجفاف العصري. وهناك شخصيات يظل المكان الأول حائلًا بينها وبين تقبل التطور الذي يمكن أن يضيف إليها بمعايير المجتمع وحساباته مثل قصة "بياع الكرنب" ذاك الفتى يرفض العمل في الإعلانات لأن صورته ستتغير في مكانه الأصلي ولن يستطيع أن يتعامل مع أهل السوق الذي ينتمي إليه. كذلك توجد قصص تحتفي بمكان بيني يسمح للشخصية المحورية بمتابعة عدد من الشخصيات ومحاوراتها متفاعلًا معها قابلًا أفكارها أو رافضًا لها كما في قصة "في البهو"، فالشخصية المحورية تعمل في فندق وتعايش نزلاء الفندق من مكانها في الاستقبال مما يجعلها تقف أفكار بعض البشر لكنها تجد في الأدب سكنًا لها، فأمكنة العابرين لا تتوافر فيها جماليات الاستقرار. يلاحظ القارئ أن صلابة المكان يمكن أن تكون رمزًا لتصلب الشخصية وتحجرها كما في قصة "السبع حجج" التي وصلت فيها شخصية نجلاء إلى منصب كبير وعاملت زملاء العمل بجفاف رافضة الحجج التي يتذرعون بها للحصول على إجازة، ووجدت نفسها في العمل متماهية بالمنصب "مثل بطل حضرة المحترم لنجيب محفوظ"، وحينما تخرج من مقعد الإدارة تجد الحياة جافة بلا رفيق أو صديق. في مقابل هذه القصة توجد قصة "أدرينالين التي تتنتقل فيها الشخصية المحورية من الرصانة إلى السيولة سعيًا وراء مكتسبات شركات الدعاية التي تحتفل بأنصاف الموهوبين وتروج مشاريعها من خلالهم، وفي هذا بعض الفائدة تدركها الشخصية وتسير في هذا المجال محولة اتجاهها السابق تمامًا، وتخرج في رحلات عبر العالم مع الشركة الراعية للفنان شبه المبتذل. إن مجموعة تاميران محمود "نداهة المنيل" تلمس المتغيرات التي يفرضها السياق الحالي بسرعة ويضع الشخصيات في سباق أحيانا أقوى من احتمالها وقليل من يتمسك بروح المكان وجمالياته وشعريته في مقاومة طوفان التحولات العالمية دون أن تتصلب أفكاره أو يخرج من السباق.