تحمل القصة حياتنا في أحداثها وشخصياتها وأجوائها وتصنع جسرا يحاول أن يصل بين العالم الذي عبرناه في الماضي، واللحظة الحاضرة التي يهددها مستقبل حافل بالمتغيرات، هذا ما يجده القارئ في مجموعة الأديبة المصرية صفاء عبد المنعم فنجان قهوة ب "7" جنيه، ومن الواضح أن العنوان يستحضر تفاصيل الحياة اليومية في الشوارع والطرقات وداخل وعي الشخصية ومزاجها وتوجهاتها الشعورية والذهنية لكي يقيم علاقة بين الكيف والكم، أو التذوق المرتبط باليقظة أو بالإبداع والاستمتاع بجماليات العالم من ناحية ولغة الحساب التي تفرض نفسها على معطيات الحياة من ناحية أخرى. هذا المدخل العنواني يطرح نفسه في قصة أخرى داخل المجموعة هي "فيلم قصير" المكتوبة بضمير الغائب وفي صيغة المضارع التصويري الذي يشير إلى حاضر مرئي لحركة امرأة عجوز في الشارع الصاخب تتابع بعض المشاهد التي تصور أنماطا من شقاء الحياة وتمر بها على أمل أن تعود لتشارك المتعبين لحظة من حياتهم المشردة لكنها في عودتها لا تحفل بهم لأن ماكينة الصراف الآلي لم تعمل معها، بمعنى أن الحياة المادية أصبحت مؤشرا للحياة الروحية. لكن بين الواقع بضراوته الكمية والذكرى بمخزنها الجمالي، تجد القصص مساحة لدمج العالمين أو على أقل تقدير أن يكون الإبداع وميضا يخفف من عتمات لحظتنا الحضارية، في هذا المجال نجد أن صفاء عبد المنعم تستعين بمجموعة من التقنيات التعبيرية للربط بين الماضي والحاضر، أو لتحقيق درجة من الإيقاع تسمح للنفس أن تعلو على فقد الحاضر المتواصل باستعادة بعض النماذج الجمالية من رصيد الذكريات بخاصة المرتبطة بالسعادة العاطفية، والعاطفة عند صفاء تشمل العلاقات الإنسانية كافة على مستوى الحب والصداقة والأسرة والجيرة واللقاء الإنساني العابر، ومن أهم ما يحقق هذا الإيقاع توظيفها لبعض الأغنيات التي تحمل جمالا فيه الشجن المصاحب لليقظة الروحية، منها على سبيل المثال أغنية "في قلبي غرام مصبرني"، التي تشغل موقع العنوان في إحدى القصص وتظل هي النغمة الأساسية لحركة السرد، وهذه الحركة تستحضر المتغيرات الاجتماعية وتوزع القصة كلمات الأغنية طوال السرد، وإن كانت نهاية القصة تأتي مع نهاية الأغنية التي لم تعد تذاع بعد ذلك، أي أن المصدر الجمالي نفسه حدث له حذف من السياق الراهن. كذلك نجد أغنيات مثل "ليلة حب" لأم كلثوم ، وأغنية "يا قلبك" لنجاة الصغيرة وهي من الألحان الجميلة لرياض السنباطي، و "ساعة في قرب الحبيب" لفريد الأطرش، وتفيض الذاكرة ببعض الأغاني القديمة المرتبطة بسلع جمالية لتستعيد المرأة الكبيرة طفولتها المرتبطة بحلوى البسبوسة، فالذاكرة تستحضر دائما جماليات الحياة، ولا يقف الأمر عند تلك الجماليات الفنية الإنسانية وإنما نجد الجماليات الكونية مثل صوت الكروان أو غناء النمل الذي يكاد يكون علامة رمزية بين الأم وابنتها، يشير إلى اقتراب رحيل الأم ومعايشة الابنة لحياة أمها. وهذه المعايشة التي تستعيد الماضي في الحاضر أحيانا وتصل بين جيلين نجدها واضحة في قصة "الأم" التي تتحول فيها الطقوس الاجتماعية المرتبطة بالحياة إلى طقوس لذكرى الأم الراحلة فكأنها مع بناتها يمارسن الحياة نفسها كما كانت في وجود الأم، وهذه (التيمة/الموضوع) تشغل مساحة مهمة في القصص بمعنى أن الكاتبة تعيش حالة التماهي مع جيل الأمهات بكل ما كانت تفعله تلك الأمهات من سلوك جمالي دقيق متكرر في حياتهن، لقد أصبحت الطفلة ثم الشابة أما تشعر بما كانت تشعر به الأم في الجيل السابق، وتقدر الدور الذي مارسته كل أم في سياقها العائلي. إن الشخصية في مجموعة صفاء عبد المنعم تحمل ثلاثة أطوار بداخلها فهي لا تعيش منفصلة عن تاريخها، فالسيدة الكبيرة بداخلها الشابة وبداخلها الطفلة الصغيرة أيضا، والسرد يسمح بذلك ويسمح باستخدام التذكر لاستعادة المراحل المختلفة في حياة الشخصية بحيث تأتي في لحظة واحدة مراحل مختلفة وهذه سمة مهمة من جماليات الإيقاع السردي كي لا يسير السرد على وتيرة واحدة بخط تصاعدي أو بالاسترجاع، إنما يبدأ السرد من لحظة ويعود إلى الماضي بدرجاته المختلفة ثم يعود إلى اللحظة نفسها ويواصل التقدم نحو المستقبل، وهذا الإيقاع يستطيع أن ينقل القارئ إلى أجواء مختلفة في الزمان والمكان محققا له التنوع والمقارنة، وجمع المتناثرات في فقرة واحدة. وتوظف صفاء السياق السردي لجمع أكثر من جيل في لقطة واحدة بخاصة قصة "خالي الدفعة" التي تتحدث عن الشاب الذي رحل أيام الاستنزاف، وفي آخر زيارة للأسرة كان بصحبة أخيه الأكبر لزيارة أختهما وبنت الأخت طفلة تشاهد التلفاز على فيلم رسوم متحركة فيه وحش يمثل الحروب وهي لا تعي ذلك، وتحدث غارة فيقف صوت التلفاز وتستمر الصورة بوصفها خلفية إيقاعية تماثل الموسيقى التصويرية وينصرف الخال ويكون آخر عهد الطفلة به، وتعيش الأم حالة من الحسرة على أخيها الصغير الراحل. وإيقاع الحياة في مجموعة صفاء يرتبط بإيقاع الحالة النفسية للشخصيات المحورية بخاصة الشخصية النسوية التي تماثل وعي الكاتبة مثل الطفلة في القصة السابقة، وفي الوقت نفسه يشير هذا الإيقاع حياة الكاتبة نفسها أحيانا حينما يستحضر ذكريات مع زميلات لها مثل نعمات البحيري وابتهال سالم وسهى زكي، كما يستعين إيقاع السرد بتقنيات سينمائية مثل المشهد في قصة "مقاطع صغيرة من يوم جميل"، وهذا اليوم يصل الطفولة بالشباب بمرحلة متقدمة من العمر تستعين فيه البطلة بالصديقة وبمشاهد من حياتهما القديمة لمقاومة متغيرات الواقع. مجموعة فنجان قهوة ب "7" جنيه لصفاء عبد المنعم، تعد شهادة من جيل الكاتبة على أحداث تاريخية واجتماعية تتخذ منها موقفا يتسم بالانحياز للجمال والوطن والقيم الثقافية التي تبني العلاقات الإيجابية بين الإنسان وذاته والأجيال المتوالية والإبداع والحياة.