الإمام محمد عبده.. الاستنارة بين حوار العقل والنص عيد عبدالحليم يمثل الإمام محمد عبده نقطة مضيئة في حركة التنوير الحديث، من خلال منهجه الإصلاحي الداعي إلى إعمال العقل وتجديد الفكر عبر رؤية مستنيرة في مجال الدين والعقيدة.، فهو رجل إصلاح، داعية ، عرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرر من كل أشكال الاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير وتنوعت جهوده من أجل تحقيق التطور والإصلاح في المجتمع على الرغم مما تعرض له من نفي وإقصاء نظرا لآرائه الإصلاحية. وقد ولد الشيخ محمد عبده بقرية "محلة نصر" بمحافظة البحيرة عام 1845، ثم حفظ القرآن الكريم في كتاب القرية، ولما بلغ الخامسة عشرة من عمره قام والده بإرساله إلى طنطا ليدرس بالجامع الأحمدي – جامع السيد البدوي وفي عام بطنطا، حيث تلقى علوم الفقه ، 1865التحق بالأزهر فدرس الفقه والحديث والتفسير واللغة والنحو والبلاغة، وغير ذلك من العلوم الشرعية واللغوية، واستمر في الدراسة في الأزهر حتى حصل على شهادة العالمية منه عام 1877. . حاول محمد عبده الانفتاح على العلوم الأخرى والتي لم يكن الأزهر يهتم بتدريسها في هذا الوقت ووجد ضالته في بعض الشخصيات التي أثرت في حياته بشكل فعلي منهم الشيخ درويش خضر والذي كان يقدم له النصح دائماً ويوجهه للطريق السليم ويحثه على ضرورة التعرف على مختلف العلوم الأخرى بجانب العلوم الشرعية والفقهية، وبعد ذلك تعرف محمد عبده على الشيخ حسن الطويل الذي كان على دراية بعدد من العلوم مثل الرياضيات والفلسفة وتلقى على يديه عددا من الدروس، ثم يأتي دور السيد جمال الدين (الأفغاني) في حياة محمد عبده وتنشأ بين الاثنين صداقة قوية مبعثها الدعوة للإصلاح. وأول الدروس التي تعلمها "محمد عبده" من "جمال الدين الأفغاني"، حرية البحث والاجتهاد، ومحاربة الجمود، والإصلاح المجتمعي، ومحاربة الاستعمار، وتوجهت دعوته إلى الإصلاح بدعوة الحكومة لاتخاذ منهج إصلاحي يغير حياة الشعب إلى الأفضل، وقد خالف في ذلك منهج أستاذه الأفغاني الذي كان يرى أن الإصلاح يأتي من الشعب ولا يفرض عليه فرضا، وربما هذا التوجه أحد المآخذ التي أخذت على الإمام محمد عبده، خاصة في مرحلة تقربه من "رياض باشا" رئيس الوزراء في عهد الخديوي توفيق والذي عينه رئيسا لتحرير جريدة الوقائع المصرية، وهي الجريدة الرسمية للحكومة. ومع ذلك فقد جعلها الإمام منبرا للدعوة إلى الإصلاح من خلال مقالاته عن إصلاح التعليم وطريقة الحكم، بالإضافة إلى اعتماده على تحديث أسلوب الكتابة حيث اعتمد على النثر المرسل مبتعدا عن الأساليب الزخرفية التي كان يعتمد عليها كتاب ذلك الزمان. لكن لم يدم رضا الحكومة عليه طويلا فنفي إلى بيروت وظل بها وقتا حتى أرسل له جمال الدين الأفغاني من باريس فلحقه هناك وأصدرا معا جريدة "العروة الوثقى"، ولكن للأسف هذه الجريدة لم تستمر كثيراً حيث أثارت المقالات التي كانت تكتب بها حفيظة الإنجليز والفرنسيين خاصة وأنها كانت تتضمن مقالات تندد بالاستعمار وتدعو للتحرر من الاحتلال الأجنبي بجميع أشكاله، فتم إيقاف إصدارها.. وعاد محمد عبده مرة أخرى لبيروت حيث قام بتأليف عدد من الكتب، والتدريس في بعض مساجدها، ثم انتقل للتدريس في "المدرسة السلطانية" في بيروت حيث عمل على الارتقاء بها وتطويرها، كما شارك بكتابة بعض المقالات في جريدة " ثمرات الفنون"، وقام بشرح " نهج البلاغة" و" مقامات " بديع الزمان الهمذاني. ثم صدر العفو عن محمد عبده بعد ست سنوات قضاها في المنفى، فعاد إلى مصر وكان يراوده حلم دائم بمحاولة الإصلاح في المؤسسات الإسلامية ومحاولة النهضة بالتعليم وتطويره، في البداية عين محمد عبده قاضياً أهلياً في محكمة بنها، ثم في محكمة الزقازيق، وعابدين ثم مستشاراً في محكمة الاستئناف.. وفي عهد "عباس حلمي الثاني" بدأ محمد عبده في وضع طريقة للنهوض بالتعليم الأزهري من خلال تدريس مناهج البلاغة والتفسير وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه. ومن خلال منصبه كمفتي للديار المصرية قام بإصلاح المحاكم الشرعية، وكان منهجه يقوم على التوافق بين الدين والعقل. وربما يتجلى ذلك في رسالته الشهيرة "الإسلام بين العلم والمدنية" قام محمد عبده بتحقيق هدفه في الدعوة للإصلاح ونشر التنوير والعلم بالتدريس، فقام بتدريس المنطق والفلسفة والتوحيد في الأزهر، ودرس في دار العلوم مقدمة بن خلدون ، كما قام بالتدريس في مدرسة الألسن وقام بتأليف كتاب في علم الاجتماع والعمران، كما قام بكتابة عدد من المقالات في عدد من الجرائد منها جريدة الأهرام.. تيار الإصلاح كان الإمام محمد عبده ينتمي في تيار حركة الإصلاح إلى المحافظين الذين يرون أن الإصلاح يكون من خلال نشر التعليم بين أفراد الشعب والتدرج في الحكم النيابي وكان سعد زغلول أيضاً من مؤيدي هذا التيار، وهو عكس التيار الذي يدعو للحرية الشخصية والسياسية مثل المنهج الذي تتبعه الدول الأوروبية، وكان من مؤيدي هذا التيار "أديب إسحاق" ومجموعة من المثقفين الذين تلقوا علومهم في الدول الأوروبية. تعلم محمد عبده اللغة الفرنسية وأتقنها واطلع على العديد من الكتب والقوانين الفرنسية، كما قام بترجمة كتاب في التربية من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية وقد وجه محمد عبده نقدا شديدا للمشتغلين بالعلم في عصره ونعى عليهم جهلهم وضيق عقولهم، ونعى على الفقهاء تزمتهم وتشبثهم بحرفية النصوص. ونعي عليه افتقارهم لروح النقد والتمحيص، وتمكن الخرافات والأوهام من أكثرهم.. علاقة الشيخ محمد عبده بالخديوي عباس لم تكن على مايرام وازدادت سوءاً على مر الأيام، الأمر الذي أدى لمحاولة النيل من محمد عبده بمختلف السبل الممكنة من خلال المؤامرات، ومحاولة تشويه صورته في الصحف وأمام الشعب، وأدى هذا الأمر بالشيخ في نهاية الأمر بتقديم استقالته من الأزهر عام 1905، وبعد ذلك اشتدت معاناته من مرض السرطان حتى كانت الوفاة في الإسكندرية في يوليو 1905. قام محمد عبده بكتابة وتأليف وشرح عدد من الكتب نذكر منها "رسالة التوحيد"، تحقيق وشرح "البصائر القصيرية للطوسي"، تحقيق وشرح "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" للجرجاني، كتاب "الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية" وفي هذا الكتاب قام الإمام محمد عبده بإجراء مقابلة بين الدينين الإسلامي والمسيحي وأثرهما في العلم والمدنية، تقرير إصلاح المحاكم الشرعية سنة 1899 م. كما قام العديد من الكتاب بتناول شخصية محمد عبده وآرائه الإصلاحية من خلال كتبهم ومقالاتهم المختلفة منها: كتاب "محمد عبده" تأليف محمود عباس العقاد، كتاب "رائد الفكر المصري – الإمام محمد عبده" من تأليف عثمان أمين، كتاب " الإمام محمد عبده في أخباره وآثاره" تأليف رحاب عكاوي، وغيرها العديد من الكتب. صداقات عالمية وذاع صيت الإمام عالميا فقد كانت له صداقات عالمية مع كبار الأدباء والمفكرين في العالم ومنهم الروائي الروسي الكبير "تولستوي"، وقد كانت بينهما رسائل متبادلة منها هذه الرسالة التي أرسلها الإمام محمد عبده إلى "تولستوي" يقول فيها: لم نحظ بمعرفة شخصك ولكن لم نحرم التعارف بروحك. سطع علينا نور من أفكارك وأشرقت فى آفاقنا شموس من آرائك ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك. هداك الله إلى معرفة الفطرة التي فطر الناس عليها ووقفك على الغاية التى هدى البشر إليها، فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل، ولأن تكون ثمرته تعباً ترتاح به نفسه وسعياً يبقى ويرقى به نفسه. شعرت بالشقاء الذى نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة واستعملوا قواهم التى لم يمنحوها إلا ليسعدوا بها فيما كدر راحتهم وزعزع طمأنينتهم. نظرت نظرة فى الدين مزقت حجب التقاليد ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد، ورفعت صوتك تدعو إلى ما هداك الله إليه وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم علية. فكما كنت بقولك هادياً للعقول كنت بعملك حاثاً للعزائم والهمم. وكما كانت آراؤك ضياء يهتدي به الضالون كان مثالك فى العمل إماماً يقتدى به المسترشدون. وكما كان وجودك توبيخاً من الله للأغنياء كان مدداً من عنايته للفقراء، وإن أرفع مجد بلغته وأعظم جزاء نلته على متاعبك فى النصح والإرشاد هو الذى سموه بالحرمان والإبعاد. فليس ما كان إليك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس بأنك لست من القوم الضالين. فاحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم كما كنت فارقتهم فى عقائدهم وأعمالهم. هذا وإن نفوسنا لشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك فيما تستقبل من أيام عمرك. وإنا لنسأل الله أن يمد فى حياتك ويحفظ عليك قواك ويفتح أبواب القلوب لفهم ما تقول ويسوق الناس إلى الاهتداء بك فيما تعمل والسلام. مفتى الديار المصرية ورد عليه "تولستوي" برسالة جاء فيها: المفتى محمد عبده تلقيت خطابك الكريم الذى يفيض بالثناء على. وأنا أبادر بالجواب عليه مؤكدا لك ما أدخله على نفسي من عظيم السرور حين جعلني على تواصل مع رجل مستنير و إن يكن من أهل ملة غير الملة التى ولدت عليها وربيت فى أحضانها. فإن دينه ودينى سواء لأن المعتقدات مختلفة وهى كثيرة، ولكن ليس يوجد إلا دين واحد هو الصحيح. وأملى ألا أكون مخطئا إذا افترضت، استناداً إلى ما ورد فى خطابك، أن الدين الذى أؤمن به هو دينك أنت، ذلك الدين الذى قوامه الإقرار بالله و شريعته والذى يدعو الإنسان إلى أن يرعى حق جاره، وأن يحب لغيره ما يحب لنفسه. وأود أن تصدر عن هذا المبدأ جميع المبادئ الصحيحة، وهى واحدة عند اليهود وعند البرهمانيين والبوذيين والمسيحيين والمحمديين. واعتقادي أنه كلما امتلأت الأديان بالمعتقدات والأوامر والنواهي والمعجزات والخرافات تفشي أثرها فى إيقاع الفرقة بين الناس، ومشت بينهم تبذر بذور العداوة والبغضاء. وبالعكس كلما نزعت إلى البساطة وخلصت من الشوائب اقتربت من الهدف المثالى الذى تسعى الإنسانية إليه، وهو اتحاد الناس جميعاً. من أجل ذلك ابتهجت بخطابك ابتهاجاً غامراً، وودت أن تقوى بيننا أواصر القربى والتواصل. تفضل أيها المفتى العزيز محمد عبده بقبول وافر التقدير يقول د.عثمان أمين في كتابه "الإمام محمد عبده رائد الفكر المصري": "كان محمد عبده في نظر معاصريه، فيلسوفا حقا، أي حكما من حكماء الإسلام، فهذا "ولفرد بلنت" الذي عرف المفكر المصري خيرا مما عرفه أي أوروبي آخر، يتحدث عنه فيصفه في أغلب الأحيان بصفة "الفيلسوف والوطني الكبير". وكتب المستشرق الانجليزي "إدوارد براون" الذي عرف محمد عبده واستمع إلى دروسه في الأزهر: "رأيت كثيرا من البلاد والعباد، وما رأيت مثل الفقيد المرحوم قط، لا في الشرق ولا في الغرب فوالله كان وحيدا في العلم، وحيدا في التقوى والورع، وحيدا في البصيرة والاطلاع على ظواهر الأمور وبواطنه. وقال عنه عبدالرحمن الكواكبي: "مصر أخرجت من لا يحصى من العلماء دون الفلاسفة الحكماء؛ ثم أخرجت أخيرا حكيما فاق جميع الحكماء، وهو الشيخ محمد عبده".وعند وفاته عام 1905 رثاه كثير من الشعراء، ومنهم حافظ إبراهيم شاعر النيل الذي قال مرثيته راسما فيها صورة صادقة جياشة لشخصية العالم المخلص وقد أدار حافظ قصيدته على محاور تقوى الإمام وصبره على ما ابتلي به من أذى الحاقدين وموقفه التاريخي في دحض أباطيل المستشرقين وتفسيره للقرآن الكريم. ففي وصف فضيلة الصبر يقول مخاطبا الإمام: وآذوك في ذات الإله وأنكروا مكانك حتى سودوا الصفحات رأيت الأذى في جانب الله لذة ورحت ولم تهمم لهم بشكاة وفي تصوير مقدرة الشيخ على إفحام المستشرقين: ووفقت بين الدين والعلم والحجا فأطلعت نورا من ثلاث جهات وقفت لهانوتو ورينان وقفة أمدك فيها الروح بالنفحات وفي التعبير عن الحزن الذي اعترى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة وضاقت عيون الكون بالعبرات ففي الهند محزون وفي اليمن جازع وفي مصر باك دائم الحسرات وفي الشام مفجوع وفي الفرس نادب وفي تونس ما شئت من زفرات بكى عالم الإسلام عالم عصره سراج الدياجي هادم الشبهات