يتفق كثير من الخبراء أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تساهم بنصيب الأسد في صياغة السياسيات الأوروبية في مجالي الأمن والطاقة. وفي الوضع الراهن, تساهم هذه الحرب في ترسيخ نتيجة تبدو الأكثر ترجيحًا على أي حال, وهي إعادة انتخاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمدة رئاسية ثانية. حيث تهيمن الحرب في أوكرانيا على أجندة الأخبار الرائجة في فرنسا كما هو الحال في المملكة المتحدة. وبناء على ذلك فإن إجراءات ماكرون تجاه الأزمة تحظى بتركيز أكبر بكثير مما هو عليه الحال عادةً, في هذه الفترة الزمنية القريبة من يوم الانتخابات (تُعقد الجولة الأولى من التصويت في 10 أبريل). وليس من قبيل الصدفة أن يشهد الرئيس إيمانويل ماكرون زيادة التأييد لصالحه في استطلاعات الرأي من 25 ٪ إلى 30 ٪ على الرغم من أنه أعلن ترشحه في 3 مارس وأطلق برنامجه في 17 مارس. قلق من الحرب من الملحوظ أن المجتمع الفرنسي قد احتشد في مواجهة الأوضاع غير المستقرة, حيث تشير الاستطلاعات إلى أن 90 ٪ من الناخبين الفرنسيين يشعرون بالقلق من الحرب وأن هناك موافقة واسعة بين الفرنسيين على إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا (65٪)، وقبول العقوبات الاقتصادية ضد روسيا (72٪) وقبول مجئ اللاجئين الأوكرانيين إلى فرنسا (80٪). ورغم اعتقاد كثير من الأوروبيين أن ماكرون كان مُغرمًا بروسيا في فترة ما قبل العملية العسكرية وتقرب بشكل ساذج من بوتين – نظرا لمحادثاته المتكررة مع بوتين التي لم تُسفر عن أي إنجاز يُذكر – فإن الشعور العام في فرنسا هو أن ماكرون هو الزعيم الأوروبي الذي بذل أفضل جهد ممكن لمعالجة النزاع. ظهرت بعد الانتقادات لماكرون في بعض الأوساط الأوروبية– على سبيل المثال في قمة فرساي الأخيرة –لكن رغم ذلك حصل ماكرون على قفزة كبيرة في عدد الناخبين الذين يعتبرون أنه تحلى بالديناميكية والشجاعة والكفاءة- حسب استطلاعات الرأي. الخاسر الأكبر وربما يكون الخاسر الأكبر في هذا الصدد هي "فاليري بيكريس"، مرشحة الحزب الجمهوري اليميني. فمن المرجح أن يؤيد ناخبوها ماكرون بالتحديد، وهو ما يتضح في التراجع الكبير للأصوات المؤيدة لها في استطلاعات الرأي (من 14 ٪ إلى 11٪). ورغم ذلك، كانت حملتها الانتخابية في ورطة قبل الحرب-فقد توقفت عن تنظيم تجمعات كبيرة بعد أن سُخر منها على نطاق واسع بسبب خطاب ألقته في فبراير شككت فيه في التغيرات المناخية, بشكل اعتبره كثير من ناخبيها مُحرجًا، ولم تستطع في النهاية أن تخلق لنفسها هوية سياسية واضحة تميز بينها وبين اليمين المتطرف، وهو ما أفقدها تأييد الناخبين المعتدلين أمام ماكرون و تأييد المتشددين أمام "إيريك زمور". إيريك زمور أما بالنسبة لزمور وهو المرشح الأكثر تطرفا في يمينيته عن "مارين لوبان"-هو المرشح الآخر الذي يعاني منذ بداية العملية العسكرية الروسية، حيث تراجع أربع نقاط إلى 11٪. في استطلاعات الرأي الأخيرة, فهو الآن يدفع ثمن تصريحه الشهير الذي يقول فيه إنه يطمح بأن يكون " بوتين فرنسا' أو تصريحه بأن 'أوكرانيا هي دولة غير موجودة' ، ناهيك عن سلسلة من مزاعم الاعتداء الجنسي التي طالته في الفترة الأخيرة. ومع ذلك، فإن تاريخ المشاعر المؤيدة لروسيا بالنسبة ل «زمور» لا يؤدي إلى خسارة مضمونة له في التصويت. فلم تشهد أصوات كل من مارين لوبان واليساري "جان لوك ميلانشون"سوى ارتفاعًا طفيفًا، حيث حصلت لوبان على المركز الثاني وميلانشون الثالث, 18 ٪ و 12 ٪ على التوالي. هذا على الرغم من اضطرار حملة لوبان الانتخابية لتمزيق 1.2 مليون منشور دعائي يحتوي على صورة لها مع بوتين، في حين وصف ميلانشون في ديسمبر الماضي روسيا بأنها "ليست عدوًا بل شريكًا". الجميع مدانون بتأييد روسيا إذًا. بالإضافة لذلك، تقدم لوبان بالحجة القائلة بأن فرنسا يجب أن تنسحب من قيادة حلف شمال الأطلسي (كما فعل الجنرال ديغول في عام 1966) لتجنُب الدخول في صراعات 'لا تخص فرنسا'. ومن جانبه، يدعو ميلانشون إلى الانسحاب الكامل من حلف الناتو 'غير المجدي' لصالح ' التحالفات المناهضة للعولمة". لوبان وميلانشون إذا ما الذي يفسر ارتفاع عدد أصوات لوبان وميلانشون الطفيف في استطلاعات الرأي? أحد الاحتمالات هو أن طبيعة ناخبيهم(أقصي اليمين من ناحية لوبان وأقصي اليسار من ناحية ميلانشون) أكثر ميلًا لدعم سياسة خارجية انعزالية لفرنسا. ففي فرنسا، من المرجح أكثر بكثير من أي بلد أوروبي آخر أن يرفض الناخبون الفرنسيون إرسال أسلحة إلى أوكرانيا. لكن الأهم من ذلك هو أن الحرب الأوكرانية الروسية سمحت لكليهما بالتحدث عن موضوعهما المفضل في خطابهما السياسي، وهو الخاص بأزمة ارتفاع تكلفة المعيشة. حيث عارضت لوبان العقوبات الاقتصادية على روسيا، قائلة:" لا أريد أن ترتفع أسعار الغاز ثمانية أضعاف وأن تتضاعف أسعار النفط. لا أريد أن يرتكب الفرنسيون انتحارًا جماعيًا". كما اقترحت خفض ضريبة القيمة المضافة بنسبة 75 ٪ على الوقود. في حين عارض ميلانشون هو الآخر الحظر على الغاز الروسي، قائلًا "سنكون الوحيدين الذين يتضررون من هذا'. ولا تزال حالة القوة الشرائية مصدر قلق كبير للناخبين الفرنسيين والتي كان من المتوقع لها أن تنخفض قليلًا في النصف الأول من عام 2022. وقد تفاقم هذا القلق بين الناخبين في فرنسا الآن بسبب الصراع في أوكرانيا، مع ارتفاع أسعار الوقود والتضخم الذي بلغ أعلى مستوياته منذ عام 2008. كما يتمتع كل من لوبان وميلانشون بدعم قوي بين ناخبي الطبقة العاملة الذين من المرجح أنهم سيتأثرون بشكل غير متناسب بهذه الزيادات الكبيرة في الأسعار. والواقع أن الدعم الفرنسي للعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا يقل بشكل ملحوظ عن متوسط الاتحاد الأوروبي (72 ٪ من إجمالي العقوبات الفرنسية على روسيا في مقابل 79٪ مفروضة على روسيا من جانب بريطانيا وألمانيا). وفي سياق أسعار الطاقة, كان برنامج ماكرون الانتخابي محددًا فيما يخص الوعد بمراجعة قواعد تسعير الطاقة في الاتحاد الأوروبي هذا أولًا, و ثانيًا التصريح باحتمالية اتخاذ قرار تأميم شركة الكهرباء الفرنسية EDF. إن استمرار بروز قضية القوة الشرائية يزيد من فرص كل من لوبان وميلانشون ( هذا الأخير الذي سيتطلع إلى الحصول على 13 ٪ من الأصوات المُتنافس عليها بين خمسة مرشحين يساريين آخرين) ليكون أحد المرشحين البارزين لإجراء جولة الإعادة الثانية ضد ماكرون. الحملة الانتخابية تري الباحثة والكاتبة الصحفية "جويل ريلاند" أن ماكرون متأكدًا من النصر أيًا كان من يواجهه. لكن كيف سيدير الحملة الانتخابية في الأيام القادمة لا تزال قضية مهمة. فهو يأمل في استخدام فترة ولايته الثانية لدفع الإصلاحات الطموحة التي تحدث عنها في برنامجه الانتخابي، والتي تشمل تخفيضات ضريبية ورفع سن التقاعد والحد من البطالة. فإذا تعثرت الحملة الانتخابية حتى نهاية السباق الرئاسي, حيث يمثل ماكرون دور رجل الدولة ذو النفوذ الدولي أكثر مما يلعب دور المرشح الرئاسي المحتمل، فقد يجد أنه يفتقر إلى الزخم السياسي اللازم لتطبيق هذه الأجندة الإصلاحية. حيث تمثل الانتخابات البرلمانية المقبلة في يونيو التحدي الأصعب بالنسبة له، يحتاج ماكرون إلى أن يحصل حزبه على الأغلبية-أو على الأقل أن يكون مهيمنًا داخل أي ائتلاف برلماني – لكي يحكم بفعالية. خسر الحزب أغلبيته في عام 2017 بعد الانشقاقات ولا يزال أقل شعبية على الصعيد الوطني من زعيمه. لذلك، سيحتاج ماكرون إلى إنهاء الحملة الرئاسية بأكبر قدر من المكاسب على مستوى التصويت (فرق كبير للأصوات لصالحه في مواجهة منافسه في الإعادة) للفوز بأقصى عدد ممكن من المقاعد البرلمانية لحزبه. وإذا لم يحدث ذلك, سيحصل ماكرون على ما يريده في السياسية الخارجية الفرنسية, دون أن يكون قادرًا على تطبيق الكثير من عناصر برنامجه الداخلي. عندما يتعلق الأمر بالانتخابات المقبلة في فرنسا، فإن الحرب في أوكرانيا لا تعمل على تمهيد طريق ماكرون لإعادة انتخابه فحسب، بل تكون إدارة رد الفعل الأوروبي عليها هي السمة المميزة الأهم لولاية ماكرون الثانية. مارك مجدي