قضية للمناقشة جابر عصفور فريدة النقاش النقد الحقيقي لا يحلل الأجوبة بل يحلل الاسئلة: هذا هو الدرس الذي تعلمته من الصديق الذي أوجعني رحيله جابر عصفور. هو واحد من تلاميذ استاذتي "سهير القلماوي" تلك الباحثة و الاكاديمية التي اثرت حياتنا الثقافية , وقدمت مبكرا نموذجا لباحثة مجتهدة, فلمعت وسط كوكبة من كبار ومثقفي مصر, واخذت ترعي تلامذتها وتلميذاتها كاستاذة وأم. ونضج هؤلاء جميعا في ظل "طه حسين". سوف اتوقف في هذه القراءة المقتضبة لاسهام "جابر عصفور" في النقد أمام قضية اري انه جري اغفالها أو بالاحري تهميشها, ألا وهي الخروج من الخندق الصغير الذي حصر النقد, والنقد الادبي علي نحو خاص في قراءة وتفكيك النصوص الأدبية ،ويصول النقد ويجول فى الدافع الاجتماعى والاقتصادي السياسي دون أن يفقد بوصلته الادبية المتخصصة, إنه باختصار اكتشاف الروابط العميقة بين الادب والواقع في شموله, وقدرة هذا الادب علي اطلاق حالة من الجدل الخلاق في المجتمع الذي ضربه الركود لأسباب كثيرة, ولعلنا نتذكر في هذا السياق تلك المناقشات الغنية علي صفحات الجرائد والمجلات حول الرمزيات الكامنة في كل عمل جديد ينتجه مبدعونا, ولطالما كانت كتابات "نجيب محفوط" الغزيرة مجالا تباري فيه كبار النقاد وتلامذتهم بحثا عن المعاني العميقة والرؤي المبتكرة, خاصة في ظل القيود التي كانت مفروضة علي الحريات العامة, وعلي العمل السياسي بشكل خاص الذي قررت الدولة الناصرية احتكاره لنفسها مع اقصاء بل وملاحقة القوي السياسية الاخري, مما ادي في أخر المطاف إلي إغلاق المجال العام وافقار الثقافة حتي قيل حينها ان السلطة اممت الثقافة ضمن موجات التأميم المتعاقبة. ولكن المجتمع المصري كان اخذا في التغير السريع وفقا لاجراءات تقدمية الطابع التي اتخذها النظام الناصري, رغم كل القيود والعقبات. وفي مجال الثقافة ادي انتشار مجانية التعليم وانشاء المزيد من المدارس والجامعات وقصور الثقافة الي تغييرات عميقة في بنية المجتمع المصري مع اتساع رقعة كل من الطبقة العاملة والطبقة الوسطي. ويعرف جيلي جيدا هذا التعبير الذي شاع في الستينيات, اذ تكرر كثيرا "انني لولا مجانية التعليم ما كنت قد التحقت بالجامعة". وفي الحقيقة كانت مجانية التعليم التي اثارت غضب الطبقة الغنية هي العنصر الرئيسي في التحول العميق الذي عرفته بلادنا بعد ثورة يوليو؟ ويري بعض المعترضين علي تعليم الفقراء أن هذه المجانية كانت سببا رئيسيا فيما اسموه حينها بتطاول"الغوغاء" عليهم, وربما يقوم احد الباحثين بدراسة الامثال والحكم التي شاعت في ذلك الحين لعله يكشف مدي غضب الاغنياء وسخطهم علي الشعب, وطبيعة الصراع الذي دار في هذا السياق. عجزت الطبقة الحاكمة رغم قمع الحريات وفتح السجون والمعتقلات للمعارضين- عجزت عن مقاومة النتائج الموضوعية لتوسع التعليم العام, وبالتالي عجزت عن مقاومة نتائج صعود طبقة وسطي جديدة متطلعة انتجتها اجراءات يوليو. علي هذه الارضية وفي ظل اشجارها الوارفة تأسس جيل "جابر عصفور" من المثقفين والمبدعين, بعد أن كانت المدارس والجامعات قد فتحت أبوابها لأبناء الفقراء عبر المشروع الناصري الطموح "للاشتراكية" كما رآها. لعب تغييب النقد ومحاصرة الحريات دورا اساسيا في ابقاء هذه المرحلة الغنية في تاريخ بلادنا بعيدة عن النقد, إذ أن السلطة العسكرية اعتبرت أي نقد هو تخريب, وقلمت أظافر كل رأي مختلف حتي لو انطلق من ارضية التوافق مع التوجهات الاساسية للنظام, وكتبت لنفسها صفحة سوداء في هذا الصدد. ولأن حيوية اي مجتمع لا تعتمد فقط علي خيارات نظام الحكم- وإن كانت اساسية- لأن عناصر اخري كثيرة تتفاعل فيما بينها لانتاج هذه الحيوية, فقد ابتكر المصريون, والمثقفون في القلب منهم طرائق وأساليب شتي للتحايل, وكان علي رأسها- كما نعرف جميعا "التنكيت", فأصبحت السخرية سلاحا برع المصريون في استخدامه ضد الظالمين والغزاة. وتوالت في بلادنا أجيال من المبدعين في شتي المجالات نهلوا من هذا التراث وراكموا عليه سيرا علي النهج الذي سار عليه اجدادهم الذين جعلوا من مصر منارة للعمل والفن والادب عبر التاريخ- رغم الانقطاعات التي حدثت بسبب الهجمات الاستعمارية, وتغول الطغاة. ورغم أن التاريخ في مصر هو علم متقدم يليق ببلد ضربت جذوره في اعمق اعماق هذا التاريخ, رغم ذلك لاتزال هناك مناطق معتمة فيه تحتاج لاضاءات جديدة. وبالطبع فإن، لدينا من العلماء الاجلاء والثقاة من هم قادرون علي القيام بهذه المهمة الجليلة, التي سوف تؤكد مرة اخري جدارة مصر بمثقفيها وتاريخها بالغ الثراء. رحم الله الصديق والمفكر "جابر عصفور"؟