قضية للمناقشة ما ضاع حق.. فريدة النقاش رغم أن الصحف العربية أخذت تنقل أخبار الهجرة غير الشرعية إلى صفحاتها الداخلية، وذلك لكثرة ما نشرته عنها في الصفحات الأولى, فإن هذه الأخبار لم تنقطع, وأكاد أجزم أنها يومية تماما مثل اخبار الوفيات. حرصت طيلة سنوات علي متابعة هذه الأخبار, وأشعر بارتياح حين أجد أن الاعداد تتراجع, ولكنها في الحقيقة لا تتراجع, بل أعتقد أنها في ازدياد. وسوف تقودنا أي رؤية شاملة لموضوع الهجرة هذا إلى التعرف علي الاسباب الحقيقية والعميقة للوهن في الجسد العربي. وكنا قد استرحنا بعد التوافق العام علي حصر اسباب هذا الوهن في عنصر واحد وهو الاستعمار. وكافحت الشعوب العربية طويلا, وقدمت الكثير من التضحيات للخلاص من الاستعمار. وبعد ذلك حلت خيبة أمل حين عجزنا عن تحقيق طموحاتنا المشروعة في التقدم بعد التحرر حتي أن البعض اخذ يترحم على ايام الاستعمار. كنت ومازلت لا أرتاح لحصر أسباب اي ظاهرة في عنصر واحد. صحيح ان هناك عادة سبب رئيسي بين أسباب أخرى قد نصفها بالثانوية في انتاج اي ظاهرة, وعلينا ان نضعها جميعا في الحسبان. ويقفز إلى الذهن مباشرة سبب يعتبره بعض الباحثين رئيسيا وهو الفقر. فإذا كان الفقر قد طال البلدان غير البترولية بشكل أساسي فإن حتي البلدان التي تنعم بثروة بترولية لم تنج من الهجرة, وهو ما يدعونا للتدقيق وللنظر بعمق في موضوع الهجرة مع عدم إغفال أن الشباب هم الكتلة الأساسية بين المهاجرين والطامحين إلى الهجرة, ولابد لنا من دراسة القضية من كل جوانبها ان كنا نريد الوصول إلى حلول . وربما كانت الثقافة السائدة بين المسئولين عن رسم السياسات والمسئولين عن تنفيذها في بلدان الوطن العربي غالبا ما تفسر تطلع الشباب وحتي الشابات إلى الهجرة باعتباره فقط الفقر والبحث عن أوضاع مادية افضل, وذلك بتجاهل سبب آخر أرى أنه لا يقل أهمية وهو نمط العيش وقدر ما يتوفر من حرية الاختيار ومقومات وضمانات هذه الحرية. قبل سنوات قال "يوسف إدريس" – علي ما أذكر- ان ما هون متوفر من حريات في الوطن العربي كله لا يكفي كاتبا واحدا, وكثيرا ما سخر صناع السياسة من تركيز المثقفين على الحريات باعتبار هذا التركيز ترفا, ولمداراة قسوة وشطط ما أصدروه من تشريعات لقمع الحريات, تواصلوا إلى مقايضة شريرة بين الخبز والحرية, حين رأوا في الحرية ترفا, ولم يكن ذلك الا خوفا من أن ترتفع الاصوات التي تدافع عن حقوق الناس وتطالب بها, ومع ذلك فهم لم يوفقوا تماما في إنجاز ما وعدوا به. وبقي السؤال الذي طرحه المنورون الاوائل في القرن التاسع عشر قائما: لماذا تقدم الآخرون وبقينا نحن مكاننا؟ وما زلنا نبحث عن اجابة. وقدمت الشعوب العربية الكثير من التضحيات دفاعا عن حرياتها, ومن اجل اللحاق بركب التقدم العالمي, ومع ذلك بقي جدول اعمال تقدمنا ممتلئا بمهمات لم يجر انجازها, وعلي رأسها تأمين الحريات العامة, وذلك دون اختزال هذه الحريات في مجرد التعبير عن الرأي, اذ دأب الفلاسفة وعلماء الاجتماع في عصرنا علي توسيع نطاق هذه الحريات لتصبح ثنائية المنحي حتي اصبح من الامور المستقرة في الوجدان الانساني اقتران الحريات بالحقوق, حتي اصبح هذا الاقتران بالتدريج مطلبا شعبيا بعد جهود كبيرة. وفي هذا السياق , وعلي العكس مما يدعيه المعادون للاشتراكية ومروجو ما يسمونه بالحرية الطليقة, بقيت الاشتراكية رغم كل الانتكاسات والخيبات التي حاقت بها مطلبا راهنا لدي ملايين الفقراء والكادحين في كل ارجاء العالم, وبقي علي اصحاب المصلحة في انتصارها- وهي بالمليارات ان يطوروا مفاهيمها, بعد أن كانوا قد ابتكروا علي مر العصور اشكالا بلا حصر, وعبر نضالهم الممتد لارساء العدالة, واعادة توزيع الثروات علي الصعيد العالمي, وفي كل بلد علي حدة. وأسفر هذا النضال الطويل عن تحول الاشتراكية إلى منظومة متكاملة واضحة المعالم, وإن كانت قد فقدت بعض نفوذها اثر سقوط اول تجربة لبناء الاشتراكية في بلد شاسع متعدد القوميات والمشارب وهو الاتحاد السوفيتي السابق. كانت تجربة السقوط هذه مناسبة ثمينة للمعادين للاشتراكية حتي ان بعضهم ابتكر نظرية لما يسمي بنهاية التاريخ, حين رأي أن الرأسمالية هي اختبار التاريخ الحاسم والنهائي. ولكن الواقع الانساني كذب هذه النبوءة , بل وحتي بين سذاجتها, وذلك حين انفجرت الانتفاضات والاحتجاجات, بل والثورات ضد مظالم الرأسمالية, كما ارتبطت هذه الانتفاضات والاحتجاجات بالمطالب الاجتماعية فماذا تفعل الشعوب في مواجهة الفقر والقمع سوى ابتكار اشكال للمقاومة وكان طبيعيا ان تنشأ حركات المقاومة بأشكالها المختلفة السلمي منها والمسلح لتهتز عروش الظالمين في كل مكان, وليصبح أصحاب الحقوق علي يقين أكثر أن لكل ظلم نهاية, ولكل استبداد أجل, وقد علمتهم الطبيعة أن لكل ليل نهار, ويتواصل الكفاح- وإن هدأ- ويتخذ أشكالا قد لا تخطر علي بال الظالمين, فأصحاب الحقوق هم عادة الاكثر دراية بدروب الوصول. ودائما ما سوف نقول ما ضاع حق وراءه مطالب.