كتب الزميل «سمير كرم» في العدد الماضي مقالا بعنوان تحريض ضد الشيوعية أم ضد مصر، كاشفا عن الدور التخريبي الذي قام به بعض النواب في مجلس الشعب حين سارعوا باتهام حركة شباب 6 ابريل بأنها مجرد تحريض من الشيوعيين، واعتبر «سمير» أن ما قالوه هو دس وتحريض له تاريخ منوها بالدور الوطني التقدمي الذي لعبه الشيوعيون المصريون علي امتداد تاريخهم، هم الذين لم يحملوا سلاحا أبدا ضد خصومهم. وفي هذا العدد ننشر مقالا للكاتب الفلسطيني «محمد الجندي» عن الدور الذي لعبته الحركة الشيوعية في السياق العالمي، وهو دور مجيد بني عليه استنتاجه أن الاتحاد السوفييتي لم يسقط. لقد قاد النضال الشيوعي الطبقة العاملة في القرن التاسع عشر واستطاع انجاز الثورة البلشفية في 1917 وخوض الحرب الأهلية بنجاح حتي 1920، وبناء الاتحاد السوفييتي، وتحقيق الثورة الصناعية في ثلاثينيات القرن الماضي، والدفاع عن الوطن ضد أشرس هجوم نازي في أربعيناته، وإعادة بناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية بإمكانات ذاتية (وكان الدمار كبيرا) حتي 1950 وتطوير الاتحاد السوفييتي إلي دولة عظمي كانت الأولي في غزو الفضاء، وغزو أعماق الأرض، وبناء كاسحات الجليد، الخ. والمسيرة الملحمية التي تحققت كان لا بد أن تقع في مطبات، كما في كل مرحلة انتقالية تاريخية كبيرة. كان أول ما واجه ذلك النضال في الاتحاد السوفييتي هو دخوله إلي حيز الجدل النظري. طبعا كان لا بد من ذلك، لأن الصراع، دمويا كان أم سلميا، هو حوار مع الآخرين، مع طروحاتهم، ومع طرق تفكيرهم، ولكن هذا شيء، وربط النضال بشيء من الجدل الفقهي شيء آخر. خندق الرأسمالية القضية العمالية تتلخص في السؤال «من يتسلم إدارة المجتمع» هل الرأسمالية، التي تنتج الفقر؟ أم الطبقة العاملة التي تحول الإنتاج المادي لصالح الأغلبية الساحقة في المجتمع؟ لا ريب أنه مع الجواب، بأن الطبقة العاملة هي التي يجب أن تتسلم إدارة المجتمع، فإن النضال في سبيل ذلك يحتاج أمرين، وجود القوة، التي يتحقق بها نقل الإدارة السياسية والاقتصادية للطبقة العاملة، من جهة، والتحليل النظري، الذي علي أسسه تبني إستراتيجية الانتقال إلي الإدارة العمالية للمجتمع، والذي يتناول الواقع والمنظور التاريخي، من جهة أخري. وبذلك يكون المثال التاريخي مفيدا (كومونة باريس، التجربة السوفييتية، إلخ) ولكنه غير كاف بذاته، ولا ينطوي علي المتغيرات، الذي أصبحت تحدث بسرعات صاروخية هنا يمكن أن يجتهد المرء كثيرا أو قليلا، ولكن لكي يبقي النضال لصالح الطبقة العاملة، يجب أن يبقي المنظور نقل إدارة المجتمع إلي الطبقة العاملة، وعندما يتغير ذلك، يبقي المرء في خندق الرأسمالية الدولية، وهناك فرق بين المهادنة المرحلية أو التاريخية للقوي المعادية للطبقة العاملة، وبين البقاء في الخندق الرأسمالي. إن المهادنة هي جزء من إستراتيجية النضال، بينما البقاء في الخندق المعادي هو انضمام للعدو. وقد لعب الكثيرون علي الفرق الدقيق بين الأمرين، مما أدي بالكثير من قيادات الأحزاب العمالية إلي التحالف في الماضي والحاضر مع الرأسمالية الدولية، بل إلي القطعية مع القضية العمالية. وبصورة خاصة انهيار الاتحاد السوفييتي بدءا من 1985 اعتبر فشلا للاشتراكية العلمية، وانتصارا نهائيا للرأسمالية الدولية، أو في أحسن الافتراضات فشلا للتجربة السوفييتية، يستدعي التفتيش عن غيرها، وغيرها هو أي شيء غير الاشتراكية العلمية. التجربة لم تفشل حتما لسنا هنا في معرض النقاش مع مختلف الطروحات المتعلقة بذلك، ولكن يمكن القول بسرعة، إن التجربة السوفييتية لم تفشل، لأنها نقلت الإمبراطورية القيصرية من ضعف التطور، ومن الإقطاع إلي الدولة العظمي، وساعدت علي نقلات تقدمية في اتجاه الاشتراكية العلمية في مناطق واسعة من العالم، وعلي تحرير المستعمرات، فلولا الاتحاد السوفييتي ومساعدته المادية والسياسية ما وجدت دول العالم الثالث. فالاتحاد السوفييتي كدولة خسر الجولة مع الرأسمالية الدولية، ولكن التجربة السوفييتية لم تفشل. وسواء فشلت التجربة أم لا، هل انتهت قضية الطبقة العاملة؟ إن ما يجري اليوم يوضح إن انتهاء قضية الطبقة العاملة يعني انتهاء الإنسان، وربما انتهاء الكوكب. ولا ريب أن عدم حمل المسئولية التاريخية هو شأن ذاتي يتعلق بقيادات الأحزاب العمالية، ولكن هذا لا يعني أن القضية العمالية انتهت. النضال الطبقي واجهته منذ البداية مسألة التعامل مع الماضي ووجدت في هذا المجال طروحات تدعو إلي القطيعة معه، ولكن كان ذلك غير واقعي. إن المجتمع الإنساني هو نتيجة تطور طويل من المرحلة الحيوانية إلي المرحلة الأشد تقدما، ولا يمكن بناؤه من الصفر. والماضي بعجره وبجره يؤثر في الحاضر وفي المستقبل، أيا يكن ذلك الحاضر أو المستقبل. ولكن هناك فرقا كبيرا بين الاتصال العضوي والحضاري بالماضي، وبين العمل علي نقله إلي الحاضر. أهرامات مصر هي تراث إنساني عظيم، وتاريخها، الذي يعود الفضل في البدء بفك رموزه إلي العالم الفرنسي شامبليون، يجب أن يكون موضوعا علميا، ولكن هذا شيء، والدعوة السياسية إلي الفرعونية شيء آخر، وبصرف النظر عن أي تقدم لمثل هذه الدعوة، فهي متناقضة مع قضية الطبقة العاملة. قد تكون الدعوة إلي الفرعونية غير سياسية، ومتعلقة بالفن، أو بالأزياء، والأمر في هذه الحال يختلف. الخيط الرفيع مثال آخر هو الدين. إنه تراث إنساني، وليس مجرد تراث، إنه تراث وعي إنساني ويميز المرء في شأنه، إن كان فرديا، ويتعلق حينئذ بحرية الإنسان، أو محورا لتشكيل طائفي، هو تراث عبودي، والفرق كبير بين اعتناق الدين والتمسك الطائفي. فالأول يتعلق بالحق في الحرية، أما الثاني، فطرح سياسي يدعو إلي بناء مجتمع عبودي. والنضال الطبقي لا يتطلب من المناضلين التخلي عن الحق بالحرية، ولكن يتطلب منهم تجاوز المجتمع العبودي، لأنهم مع الإيمان بالمجتمع العبودي، الذي هو أضعف تطورا من المجتمع الرأسمالي، يفقدون الصلة النضالية بالقضية العمالية. طرح كثيرون ثورة الزنج، وثورات الفلاحين في هذا البلد أو ذاك، علي أنها ثورات »اشتراكية« طبعا هذا غير صحيح، لأنها حافظت قليلا أو كثيرا علي التشكيل الإقطاعي العبودي، الذي لا تسمح المرحلة التاريخية بالخروج منه الاشتراكية تأتي بعد الرأسمالية لا قبلها. الثقافة المتبلورة في الأدب الأدبي، أو الأدب السياسي، والفن بمختلف صنوفه، التصوير، الموسيقي، المسرح، السينما، الخ، يتغلغل فيها الماضي، ويطرح بشكل مباشر أو غير مباشر القيم الرجعية، والرأسمالية والتقدمية. وهي لا تزدهر، إلا بالحرية، فالكم الهائل من الإنتاج الثقافي المعلب تضعف قيمته الثقافية إلي درجة كبيرة، وإن كان يعبر عن مراحل تاريخية في حياة الشعوب والبلدان. هناك خيط رفيع يفصل بين الحرية الثقافية، واستخدام الثقافة أداة تخريبية في المجتمع. فمن جهة، الكبت الثقافي هو غير ممكن، حتي ولو حاولت أي إدارة، ومن جهة أخري يجب الدفاع الثقافي عن التقدم، والدفاع الثقافي هو غير الدفاع الإداري أو الأمني. أخطاء تاريخية القومية وحق تقرير المصير أوجدتهما حركات التحرر منذ مطلع القرن العشرين، ويؤلفان طرحا تقدميا في مقاومة الاستعمار، ومن الطبيعي أن يستوحيا الماضي، الذي يبني شخصية الشعب الاعتبارية، ولكن هناك فرقا كبيرا بين تشكيل الماضي دافعا روحيا للتحرر، والوقوع في فخ إعادة الماضي إلي الحاضر. طبعا هناك دوما حقيقة، هي أنه لا يمكن نقل الماضي إلي الحاضر، أيا يكن ذلك الماضي. يمكن فقط بذريعة الارتباط بالماضي ارتكاب أخطاء تاريخية قد تنطوي علي نتائج كارثية علي الشعب، أو علي أجزاء منه، فالتطهير العرقي، والتمييز العنصري بكوارثهما هما من جملة النتائج المذكورة. ومن جملة النتائج أيضا المجازر الطائفية (الدينية والعرقية والقبلية) التي تجري اليوم في العالم. القومية هي تقدمية بمقدار ما تؤلف دافعا للتحرر من الاستعمار، وأداة لرفع العبودية والتمييز الاستعماريين عن كاهل الشعب. أما حلول عبوديات جديدة، كما هو جار في العالم الثالث، فإنه يزيل الصفة التقدمية والتحررية عن بلدانه. وواجه النضال الطبقي موضوع الديمقراطية. يجب هنا أن يتذكر المرء أن الديمقراطية بمختلف تجلياتها دخلت التاريخ الإنساني في مواجهة الإقطاع، لا في مواجهة الرأسمالية، فالمواجهة الأخيرة تحتاج النضال الطبقي، الذي من دونه يبقي الإنسان مستعبدا، وقد يدمر، وتدمر حياته علي الكوكب. الفخ الرأسمالي منتقدو الاتحاد السوفييتي باللاديمقراطية ينسون تاريخه الصراعي، وينسون أنه بني الإطار الاجتماعي الضروري لحرية الإنسان، والذي من دونه لا معني لأي توهم بالحرية. ما معني الحرية في المجتمعات الرأسمالية حتي بالنسبة لصندوق الاقتراع؟ هل يذهب المرء بحرية إليه؟ ومع ذلك، سواء كان النظام السوفييتي ديمقراطيا أو غير ديمقراطي، فالبديل «الديمقراطي» للتجربة السوفييتية هو سقوط في الفخ الرأسمالي. نساك «الديمقراطية» ينسون الديمقراطيات الدموية في العالم، وينسون حتي ديمقراطية الإدارة الأميركية في التمييز العنصري، وعدم الأمن في المجتمع بسبب مختلف أنواع العصابات، وفي المشردين homeless والبطالة الخ. مع ذلك، فإن القيم الديمقراطية، لا الديمقراطية الدعائية هي أهم تراث إنساني، ويجب أن تبقي متغلغلة في حياة المجتمع. الحرية، الإخاء (أي عدم التمييز) المساواة (أي مساواة المواطنين أمام الإدارة وأمام القانون)، هذه القيم يجب أن تبقي إضافة لعدم الاستغلال. ولكن كل ذلك لا يبني علي طبق من فضة أو من ذهب، وإنما يحتاج نضالا مريرا، يقوم به الإنسان، وربما هذا يؤلف جوهر النضال الطبقي، الذي يمر بتصعيد تاريخي متنوع. النضال التحرري هو من جملة التصعيد التاريخي، فالاستعمار لا يبني الرأسمالية في العالم، كما توهمت قيادات أحزاب الأممية الثانية، وإنما يبني الاستعباد، كما حصل، وكما هو حاصل حاليا. ولأن مقاومة الاستعمار هي من جملة النضال التاريخي التقدمي، فإن نضال التشكيلات الطائفية ضده، الناتجة عن آلية الفعل ورد الفعل، هو نضال تاريخي تقدمي بمقدار ما هو جدي، وبمقدار ما يزيل عن نفسه صفة الإرهاب، أي صفة ارتكاب المجازر العشوائية. غير أن النضال الطبقي ليس فقط تقدميا، وإنما يهدف إلي بناء مجتمع خال من الاستغلال. وبما أن الرأسمالية دولية، فالمجتمع المتحرر من الاستغلال هو مجتمع دولي، يبني لبنة لبنة حتي يكتمل. التجربة السوفييتية لم تفشل، ومجتمعات الاشتراكية العلمية السابقة لن تبقي فريسة سهلة للرأسمالية الدولية. فقط يأمل المرء، ألا تتأخر يقظة الإنسان، وأن تهب الشعوب لمقاومة الرأسمالية الدولية، قبل أن تقدم هذه علي تدمير البشر والكوكب. كاتب فلسطيني عضو الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين نقلا عن جريدة «الحرية».