للغة ثمان وعشرون حرفا يمثلون أبجديتها وينتشرون في كل كلماتها وعباراتها, وفي فن التمثيل يعد أحمد زكي أهم حروف أبجديتها وأكثرها قدرة علي التعبير والوصف, محققا أحد الظواهر الاستثنائية التي امتهنت مهنة التشخيص وحملت في مكوناتها دلالات الاجادة والتجديد, كما استلهمت من نتائجها قيم وتعريفات لم تكن مدرجة من قبل أو معمول بها, فجاء ليخرجها من سراديبها ويعيد استخدامها مرة أخري في دهشة واستغراب جمع كبير من الهواة والاكاديميين علي حد سواء, بعد أن كانت مجرد سطور نظرية استعصت علي الكثيرين من اخضاعها والتفاعل معها. استطاع أحمد زكي بعبقرية اكتست بالفطرة وامتلأت بالموهبة أن يجمع في مزج نادر غير متكرر ثالوث متنافر لم تتحد عناصره من قبل, والذي شمل فروع الثقافة (الراقية – الشعبية- الجماهيرية) دون أن ينتقص من احداها أو يجور بفعل الانصهار علي الاخري, وكأنه كان يعي أن يصل للجميع في توقيت واحد وكيفية لا تتهم بالطبقية. إذا كان التمييز يزيل الغموض ويوضح الرؤية للشيء فيجعله متوهجا جاذبا الانتباه إليه دون لغط أو تشويش, فإن التميز يفرد الشيء علي اشباهه ويعزله ليبدو منفردا بمقومات وقدرات خاصة لم يلحق بها الآخرين.. وقد كان أحمد زكي نموذجا صارخا ومفعما بالتميز والاجادة جعلت واحد من أكبر نجوم هوليود "روبرت دي نيرو" يتوجه إليه بعد عرض فيلم "زوجة رجل مهم " في مهرجان موسكو عام 1988 ليقول له you are excellent actor (انت ممثل ممتاز). كان عسيرا علي أحمد زكي أن يذيب مسافات شاسعة من النمطية ائتلف الناس عليها وأدمنوها، حاول أن يحفر لنفسه طريقا يستطيع أن يسير فيه دون أن تلاطمه الأمواج أو تتمكن منه الدوامات, لم يكن أمامه خيار سوي السباحة ضد التيار، وفي الاتجاه المعاكس، لم يحتمي إلا بموهبته وإصرار من الفولاذ علي اجتياز كل العوائق التي تحول بينه وبين ما يؤمن به. عشق النحت لكنه لم يكن يحمل أزميل، فكانت الرحلة الطويلة شاقة ومرهقة، لم يستسلم للإغراءات وظل وفيا لنفسه ولفنه، عندما كان يحلق في أدواره لم يكن يستثني عشاقه، بل يصحبهم معه في رحلات إبداعه، ولأنه ابن بيئته ومعجون في مشاكلها فقد عرف كل واحد منهم، وعبر عن طموحاته.. إن أحمد زكي المهموم بالبسطاء، لديه دائما رؤية مغايرة ومختلفة عن الآخرين، ولأنه ممثل استثنائي، حاول بشغف الفنان أن ينحت شخوصه من الداخل، دون تعريتها أو فضحها؛ ليكسبها حيوية ويكشف عن الأماكن المظلمة بها ، فكان العامل، الجندي، الفنان، الطالب، الوطني، الصعلوك، الضابط، الميكانيكي، الحلاق، السائق، المخرج، الدكتور، المدرس، الصايع، الطبال، المدمن، المحامي، الفتوة، الملاكم، الحداد، التاجر، الموظف، البلطجي، المثقف، البواب، المهرب، المهندس، الهلفوت، الصحفي، الدجال، الهارب، السجين، السايس، تاجر المخدرات، المغني، المصوراتي، رجل الأعمال، الوزير، الرئيس، العندليب، وكل هذه الشخوص لم تكن عابرة بل نسجت علي وتر انفعالاته المشدودة، وظلت داخله تعطيه أيضا القدرة علي التنوع والتدفق اللا محدود0 فنان حمل وهجاً لا ينطفيء، ودائما في الصعود، ملأ سينما السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات بأعمال تحمل قيمة، وعلي رغم تنوعها وثرائها، فإنه في كل عمل كان حالة مستقلة ومتفردة، مكنه تدفقه التمثيلي ومخزونه الإبداعي من التجوال بحرية ودون معاناة في مناطق ملغومة يخشي الكثيرون الخوض فيها، لكنه قادر علي إجادة الاختراق والإقدام دون شبهة التكرار، ليثبت لنفسه ولجماهيره قدرته الفائقة في اجتياز كل الموانع والعوائق.. رصيد حافل ومتنوع بلغ 58 فيلما, و5 مسرحيات و4 مسلسلات، يلعب أدواره بكل حواسه وخلجاته، يديه، عينيه، شفتيه، ردود أفعاله السريعة والبطيئة، عصبيته، هدوئه، لحظات تأمله وكبته، فرحه، حزنه، مسكون بفن التمثيل، ورغم ذلك فهو لا يتشنج ولا يبالغ، وتنضح تلقائيته وعفويته علي كل مشاهده، يمثل مدرسة جديدة في الأداء، لا يقلد, لكن الكثيرون حاولوا تقليده وبعضهم نجح وكانت تذكرة المرور لعبور بوابات شاهقة، حالة خاصة وفريدة, لم يكن يتعامل مع شخصياته من باب الحرفة، فقد كان حريصا علي أن يصاحبهم ولا تنقطع علاقته بهم، فهو دائما ما كان يترك شخصية إلا ويترك بعضا من نفسه عليها, فتوزعت اجزاءه علي أدواره. الفنان أحمد زكي إن أحمد زكي الظاهرة مازال في حاجة إلي دراسات كثيرة لتحل لنا تلك المعادلة المستعصي فهمها، والتي تزداد تعقيداتها عند كل دور جديد، فعبقريته الأدائية وموهبته المتشعبة وحضوره الطاغي الملهم مازال يلفهما الغموض.. ظل أحمد زكي يبحث دائما عن حياته داخل أدواره التي يقوم بتجسيدها علي الشاشة، في محاولة لإيجاد نفسه والتعرف عليها، واكتشف في خضم هذه الرحلة القاسية التي عاني فيها آلام القلق والبحث المتواصل أنه مصاب بمرض الفن، فأدرك أن شفاءه سيظل مرهونا عند لحظة توقفه وانحساره، لذا جاءت جولاته المتوالية علاجا عبقريا لحالته المتردية. عندما ولدت السينما الواقعية الجديدة في الثمانينيات لم يجد محمد خان، وخيري بشارة، وداود عبد السيد، وعاطف الطيب، وشريف عرفة، غير أحمد زكي ليعبر عن هؤلاء الكادحين الهامشيين الغارقين في الحياة، وليجسد آمالهم في سينما جديدة تحمل كثيرا من المعاني، قليلا من الرتوش، سينما تحمل ملامح فروسية ضن الزمان بها، وتكشف عن واقع مرير ومناطق لم ينتبه إليها أحد من قبل.. إنه ذلك النوع الذي عندما يراه المشاهد وهو يلعب شخصية «السادات» ينسي تماما شخصية «عبد الناصر» والعكس، القدرة علي الانغماس في الشخصية، تساعد المتلقي علي عدم الخلط بين شخوصه، لا يملك سوي الصدق الذي يجعله ينتقل من منطقة إلي أخري بكل مشتملاتها دون أن ينتقص عنصر من عناصرها. لسنا في حاجة لمناسبة لكي نكتب عن أحمد زكي ذلك العبقري، الظاهرة، والحالة الفريدة التي أدهشت الكثيرين، ومازالت تستثير دهشتهم، سيظل أحمد زكي موضوع اجباري في مادة التمثيل, يتصدر كل الكتب المقررة في مختلف الصفوف الدراسية, وسيكون المدد والدعم لكل الساعين والحالمين بتغيير واقعهم أو اضفاء لمسات جمالية وعبقرية تشع بالايجابية وتدحض العدمية والسلبية, وسنظل نعدد مزاياه دون كلل, فلا نملك رفاهة المنع أو الاحجام طالما بقي الفن. إن علة أحمد زكي تكمن في صدره الملئ بالكلمات والمشاعر المتوهجة، والتي لم يستطع أن يخرجها، فتتفاعل داخله؛ تصرخ وتعلن عن سخطها، وتحدث هذه الفوضي آلاماً شديدة يحاول الفتي الأسمر إخفاءها أو احتمالها، أحيانا لا يقوي، لكنه لا يستسلم، ويضبط من جديد متلبساً وهو يمارس الإبداع أمام الجميع. إن المسافة من الزقازيق (البداية) إلي القاهرة (الحلم والنهاية) ليست كبيرة، لكنها كافية ومحتملة لإعمال العقل وتطويعه لخيال خصب وأحلام عفية وممتدة، تكفي لكي يحلق المرء إلي عنان السماء يلتقط النجوم ويحاكيها، يخبرها عن طموح مدفون في قاع الذاكرة والوجدان.. تري ماذا دار بمخيلته عندما قطع هذا المشوار متوجها إلي معهد التمثيل؟، هل استوعب الطريق أمنياته العالقة والمكبوتة؟ أم كان القدر يخبئ له مشاهد أكثر روعة من تلك التي نسجها خياله حينها.. ربما صادفته أفيشات علي الطريق تحمل صورا وعناوين وأخبارا وحكايات، حاول النفاذ إليها ولو علي سبيل الحلم، وربما لم يستطيع أن يتجاوز كل هذا الكم من الصراع الذي كان يفور داخله، والأغلب أنه استسلم لغفوة، في محاولة يائسة للهروب. مازالت الحروف التائهة في رأس الفتي الأسمر تبحث عن بعض النقاط لكي توضح المعاني المطموسة والكلمات العابرة، كان من المؤكد في حاجة إلي ضبط الجمل وتدقيقها. فهل استطاع أن يملأ الفراغات، ويصل ما بين المشاهد المتفرقة ليبدأ الكادر في حكي التفاصيل ورسم الرتوش الباقية. ربما لانه كان ألفة جيله يتجدد الحديث عنه كلما تطلب الأمر كلاما عن التميز والتفرد، حتي أصبح من المستحيل ان تجد برنامجا أو حوارا أو ندوة تعني بشأن التمثيل إلا ويذكر اسم أحمد زكي، فهل في ذلك أي نوع من المصادفة أو المجاملة؟ لا نظن ذلك، وحقيقة الامر ان الراحل كان واحدا ممن جددوا في مهنة التمثيل وبرعوا فيما توقف عنده الكثيرون، واستطاع ان يضيف بأعماله سطور مضيئة في صفحات الرواد، وقد يتطلب الامر وقتا لظهور ممثل يملأ الفراغ الذي تركه هذا العملاق، ونأمل الا يطول هذا المدي، ومن يتأمل المشهد السينمائي الآن يدرك صحة ما نرمي إليه. منذ رحيل أحمد زكي انتجت السينما أفلاما عظيمة لا شك في ذلك، استحوذت علي إعجاب النقاد والجماهير ونالت ما نالته من جوائز في الإخراج والتأليف والتصوير والإنتاج والمونتاج، حاول صانعوها ان يوفروا لها كل عوامل الجودة والاتقان. لكن ظل هناك شيء ناقص دون اكتمالها، نظن إنه تمثل في غياب عنصر التشويق لملهم يستطيع تضفير كل هذه العناصر لتخرج في صورتها الأخيرة بشكل راق وغير متكرر، وأن يكون لديه قدرة علي ادهاش المتفرج. هو واحد من أكثر النجوم الذين اطلقت عليهم القاب دون تحريض او ايحاء او شبهة توجيه، اختلف الكثير حوله شخصيته لكن موهبته ظلت الاستثناء الوحيد الذي اتفقوا عليه ، فهو الملهم الذي كان يصيب كل من يعمل معه بعدوي الاجادة، ناضل من أجل أن تبقي أدواره في ذاكرة الناس، بعد ان سكن في تفاصيلهم وهمومهم، كان يردد دائما "لا ارتضي لعملي أن يكون كذبا او زيفا فهذا ما لا أرتضيه فأنا ضد التمثيل". من مواليد مدينة الزقازيق (18 نوفمبر 1949 – 27 مارس 2005)، وكان الابن الوحيد لأبيه الذي توفي بعد ولادته، تزوجت أمه بعد وفاة زوجها، فربّاه جده، حصل على الإعدادية ثم دخل المدرسة الصناعية، والتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية, تزوج مرة واحدة من الفنانة هالة فؤاد وأنجب ابنه الوحيد هيثم الذي عمل بالفن. إن أحمد زكي حالة استثنائية في الاداء لم يقترب منها أحد حتي الآن، لذلك سنظل نتذكره عندما نري عملا جميلا وفنا صادقا، فقد كان يعشق كل شخصية جسدها علي الشاشة برقيها وندالتها، بسموها وحقارتها، وهو الوحيد الذي يمكننا أن نكتب عنه في أي وقت دون أن نسمع أحد يقول لماذا احمد زكي؟ كان يترسخ عند الكثيرين -أو تمنوا ذلك- بأن الفتي الأسمر سيهزم المرض ويفيق من غيبوبته، ليروي تجربته القاسية في رحلة المرض، ويظل يسرد التفاصيل دون توقف، لكن القدر لم يمهله ذلك، وحرمنا من لقاء أخير، فجاءت النهاية السريعة الذي تمنينا مرارا ألا تأتي.. كأننا كنا نشاهد فيلما ميلودراميا؛ مشاهده سريعة وأحداثه متلاحقة، اكتشاف المرض، السفر للعلاج، والعودة لمتابعته في القاهرة، انفراج ثم انتكاسة.. صحوة وغفوة، وأخيرا غيبوبة طويلة ظننا في البداية أنها فترة من الوقت للراحة والتأمل، لكنه كعادته فاجأنا ورحل .. هل مصادفة أن معظم أعماله يلقي فيها حتفه أو يسجن؟ أم أن لهاثه وقلقه ظلا ملازمين له ومزمنين لم ينفصلا عنه، أحيانا كنا نسمع أنفاسه المتلاحقة، دقات قلبه المهرولة، ونري انتفاضة عروقه وثورته التي كانت تخترق الصمت المطبق في المكان لتلهم عشاقه وتحرضهم علي القبح والسلبية. كان أحمد زكي لا يحتمل العزلة عن الناس، ولم يطق الأبواب المغلقة، فقد كان يستمد منهم قوته وصلابته والقدرة علي مواصلة الحياة، لذلك ظل طيلة خمسة عشر عاما يعيش في فندق، يصادق عماله، ويحتفل معهم بنجاحاته، وأحيانا كان يشكو لهم همومه ومتاعبه، فقد كان الأخ والأب وأحيانا كثيرة كان الطفل المشاكس الذي يثور كالبركان ثم يهدأ. أحبت الناس أحمد زكي لأنه واحد منهم، استطاع أن يعبر عن أحلامهم وانكساراتهم، وكان المتحدث الرسمي والناطق بما عجزوا عن البوح به، تسلل إليهم في بيوتاتهم، شاركهم الطعام والشراب، وأحيانا الحزن، لم يخجل منهم ولم يخشوه، كان أحمد زكي واحداً من أفراد عائلاتهم، كان يعلم كل دواخلهم وأسرارهم، وماذا ادخروا للزمن .. ابن بار تغاضوا عن سيئاته.. ولم يملوا من ترديد حسناته بمناسبة ودون مناسبة. فقد استطاع أن ييسر أحلام اليقظة، فتعاطوا معه الحياة، فكان أهلا للثقة التي منحوه أياها. لذلك كان الحزن عليه كبيرا، وسيظل أحمد زكي في ذاكرة الناس، فلم يحتل فنان من قبل تلك المساحة الشاسعة في عقول وقلوب الناس. إن الكيميا التي كانت تربط أحمد زكي بالناس سببها أنه كان مصريا خالصا، دون إضافات، صناعة محلية مائة في المائة، يشبه المكدوحين والمهمشين والطامحين في حياة أفضل، يتكلم مثلهم، ويغوص داخلهم ليخرج أفضل أو أسوأ ما فيهم، لم يمارس الكذب عليهم، لذا كان متفردا متدفقا، عندما يحلق لا يستطيع أحد اللحاق به، عملة نادرة في زمن ضن بالمبدعين والمخلصين. ولم يكن طريقه مفروشا بالورد، بل نحت اسمه في الصخور، وكشف عن موهبة خارقة قد لا تتكرر. كان يملك وجوها عديدة، بمفرداتها وتفاصيلها وانفعالاتها وهدوئها وصخبها وأحيانا بطفولتها، هو أحد الجنود الذين تجرعوا آلام النكسة، وتوعد بالثأر، وهو من رفع علم مصر علي أرض سيناء في 73، وهو القابع خلف أسوار السجون بتهمة حب الوطن، هو ذلك الجار الذي يغض النظر، وأحيانا يديم النظر, يساعد العجائز في عبور الطرق السريعة، ويسرع لنجدة أي مستغيث.. أو يفض اشتباك بين ناس لا يعرفهم في الطريق العام. هو ذاك الذي يفرغ كل ما في جيوبه من مال، ولا يبقي لنفسه شيئا. ولا يجد غضاضة في أن يطعم الجائع من أكله، ويروي الظامئ من مائه، هو مواطن بسيط جدا. ربما كان يتمه وهو صغير يحمل لغز هذا التفرد، والذي حرم فيها من والده، وشعوره بالوحدة بعد زواج الأم، لقد واجه الحياة اعزل لا يملك سوي أحلام صغيرة في عالم كبير، لكنه صعد السلم من أول درجاته حتي وصل إلي القمة، ولم يتزحزح عنها حتي رحيله. لا نملك رفاهة الامتناع عن الحديث عنه، ربما لأنه مازال يسكن داخل تفاصيل كثيرة لا نقوي علي نسيانها. فهو لم يكن مجرد ممثل محترف يجيد تقمص الأدوار الصعبة ببراعة فائقة ومعايشة غير مسبوقة، لكنه كان أيضا لسان حالنا في كثير من الجمل الشائكة التي صعب علينا نطقها وتلعثمت حروفها داخلنا.. أما كيف كان ينظر أحمد زكي للحياة لم نجد خيرا من كلماته حيث قال : «هدفي الإنسان، تشريحه، السير وراءه، ملاحقته، الكشف عما وراء الكلمات، الإنسان بكل متناقضاته، الشخصيات التي أديتها في السينما حزينة، ظريفة، محبطة، حالمة، متأملة، تعاطفت مع كل الأدوار، كثير من الشخصيات رمادية، ليست بيضاء، وليست سوداء، ليست خيرة تماما وليست شريرة تماما، وما علي الممثل سوي ملاحظة الحياة التي من حوله حتي يفهم أن عليه أن يجهد ويجتهد كثيرا في سبيل فهم هذه الحالات. لقد اختزنت الكثير من الأحاسيس والرغبات منذ صغري كان شاغلي الملاحظة وحب التعبير». عندما كان يدور الشريط السينمائي لأحمد زكي كان من الصعب أن تجد لغوا أو صخبا أو ضوضاء، وتتحول القاعة فجأة إلي مسرح؛ انصات واهتمام وانتباه ومتعة في المتابعة.. هو أيضا فنان تكتشفه بالتراكم ولا يتسلل الملل إليك من التكرار، ففي كل مرة تكتشف أشياء جديدة غابت عنك في المرات السابقة فموهبته التمثيلية الهادرة قادرة باستمرار علي بعث حالة من الاندهاش.. ويضبط كثيرا متلبسا بالابداع والتألق. ورغم كل هذا الثراء الفني الذي تمتع به كان يملك اضعاف تلك الموهبة .. فهو لم يقدم شخصيات اسطورية من عوالم أخري، بل إن كل هذه الشخصيات التي جسدها سبق أن قدمت عشرات المرات، لكن معه كان التناول مختلفا وبديعا وأحيانا كثيرة مستفزا.. وهذه هي إحدي ملامح عبقريته، التفرد والتطوير المستمر والتمرد بعيدا عن المبالغة والتكلف. المشهد التمثيلي في غياب أحمد زكي فقيرا تعيسا, ونظن أن الكلام لن ينتهي, ظل حتي آخر أيامه «يفن» كهاو لم تبهره الشهرة وظل كالتلميذ النجيب يبحث عن الجديد ليقدمه، فتوالت اندهاشتنا المستمرة، وتوالت ابداعاته.. ظهر أحمد زكي كوجه جديد من خلال فيلم "ولدي" أمام فريد شوقي للمخرج نادر جلال, وفي عام 1973جاء الفيلم الثاني "شلة المشاغبين" في دور صغير وهو أول وآخر لقاء سينمائي جمعه بعادل إمام, وفي 1974قدم أدوار تمهيدية من خلال فيلمي "أبناء الصمت- وبدور" استطاع أن يلفت النظر إليه, وفي 1975 يحاول أن يثبت اقدامه في "ليلة وذكريات", وفي 1976 يترقب فرصة للانقضاض مكتفيا بفيلم "صانع النجوم", ثم يأتي 1977يتقدم للامام خطوة مهمة حملت دلالات ايجابية ويقدم فيلمين وهما "العمر لحظة – وراء الشمس" ورغم أنها ادوار مساعدة أمام نادية لطفي وماجدة, لكنه يطلق انذار للواقفين علي القمة معلنا عن مجيئه. وفي 1978 يكتفي أحمد زكي بتقديم فيلم أمام السندريلا "شفيقة ومتولي" في خطوة متقدمة سيكون لها تأثير ايجابي بعد أن حفر أداءه في أذهان الجماهير, ويأتي مشهده الاخير الذي يذبح فيها "شفيقة" وكأنه يتخلص من سنوات الصعلكة محتلا المشهد الاخير وفي احضانه السندريلا, ثم يأتي اللقاء الأول والأخير مع يوسف شاهين "اسكندرية ليه" 1979, وكانت يمثل بقعة ضوء وسط لفيف من النجوم, استطاعت عين المخرج أن تكتشف مزاياه وتقربها للعدسة, وقد جمعه مشهد متميز مع العبقري محمود المليجي, في اشارة لتسليم راية الابداع لتلميذ نجيب من مدرسته. في عام 1980 يبدأ المارد في الخروج من القمقم وينتشر (الباطنية – الأشجار تموت واقفة – من الذي قتل هذا الحب), وفي "الباطنية" عاشت شخصية "سفروت" مع الجماهير عندما يتحول في آخر الفيلم ليكشف عن شخصية الحقيقية كونه ضابط شرطة يحاول كشف غموض من يدير مملكة المخدرات, وفي العمل يشاركه كبار الممثلين : فريد شوقي ومحمود يس وفاروق الفيشاوي وعماد حمدي, لكنه ينفذ بمشاهده ويحتفظ بتميزها. يزداد الطلب عليه, ويقدم أربعة أعمال في 1981 تحدث دويا كبيرا في الوسط السينمائي, وتنذر بتغيير خريطة النجومية في المستقبل القريب, والافلام هي (موعد على العشاء – عيون لا تنام – طائر على الطريق – أنا لا أكذب ولكني أتجمل), مع شراسة المنافسة بين النجوم, ذهب البعض في البحث عن افكار جديدة وتغيير نوعية أدوارهم حتي يستيطعوا أن يصمدوا أمام أفكار مخرجي سينما الثمانينيات الذي كان لديهم اسلوب جديد وافكار مختلفة عما كان مطروح من قبل, وفي هذه الأعمال بدأت ملامح نجم جديد وموهوب تنحت علي الشاشة, ونزعم أنها شخصيته الفنية قد تشكلت, وأصبحت تهدد كل النجوم الموجودين علي الساحة في ذاك الوقت. يتقدم أحمد زكي ناحية القمة بخطي ثابتة, ويقدم في 1982 ثلاثة أفلام وهي (العوامة 70 – الاقدار الدامية – المدمن), ويبدأ التنوع في 1983 من خلال (الاحتياط واجب – درب الهوى), عند النظر لافيش "درب الهوي" لمعرفة الاسم الاول يبدو الامر مربكا ومحيرا, فقد تم كتابة اسم مديحة كامل واحمد زكي عاليا, وفي منتصف الافيش كتب اسم محمود عبد العزيز اقصي اليمين فيبدو انه الاسم الاول, ثم كتب فاروق الفيشاوي وبينهما كتب اسم يسرا بخط احمر, لكن صورة الافيش تبرز محمود عبد العزيز في المقدمة يليه احمد زكي ثم فاروق الفيشاوي, وهذا الترتيب يرصد أهمية أدوارهم بالفيلم. في عام 1984 الذي يرسم ملامح مشواره السينمائي من خلال أعمال متميزة وتحمل هدف ومضمون, ويقدم 5 أفلام وهي (الليلة الموعودة – النمر الأسود – الراقصة والطبال – البرنس- التخشيبة) لوحظ في افيش فيلم "البرنس" ان اسم احمد زكي كتب اولا وتلاه اسم حسين فهمي, وهذا يعني أن الاول صعد والثاني تأخر في الترتيب, وهنا بدأت المنافسة بينه وبين عادل إمام بعد تراجع ملحوظ لكل النجوم, وهو ما استدعي بداية القلق علي المكانة التي وصل إليها, وبدأ يشغل باله بكل صغيرة وكبيرة, وبدأت مرحلة العرض والرفض, ثم يقدم في 1985 "سعد اليتيم" أمام الكبار فريد شوقي ومحمود مرسي ونجلاء فتحي. تأتي تحفته "البرئ" 1986بجانب (البداية- شادر السمك), ثم يفاجئنا برائعة عاطف الطيب ونجيب محفوظ (الحب فوق هضبة الهرم), وعلي أفيش "البرئ" يبدو الاسم الاول لمحمود عبد العزيز لكن من يدقق النظر يري بسهولة أن الافيش يحتل صورة احمد زكي بضعفي مساحته, وفي 1987 يقدم ثلاثة أفلام (البيه البواب – أربعة في مهمة رسمية – المخطوفة) ربما حققت جماهيرية ونجاحا لكنها لم تلق هوي عند النقاد، وفي 1988يقدم (الدرجة الثالثة – أحلام هند وكاميليا – زوجة رجل مهم) الاول أمام سعاد حسني ورغم تميزه لكنه لم ينجح جماهيريا وأصاب بطلته بالاكتئاب والعزوف عن السينما، والآخران كانا من افضل أفلام السينما المصرية أخرجهما محمد خان، وقد لقيا احتفاء نقدي كبير للغاية، واستطاع احمد زكي ان يسجل انتصارا ساحقا في هذا العام الذي شهد اختيار الفيلمين ضمن افضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية وجاء ترتيبهما الثلاثون، والسادس والثلاثون, وفي 1989 قدم فيلما واحدا لم يلق هوي جماهيريا ونقديا وكان (ولاد الإيه) امام ميرفت امين واخراج شريف يحيي، وينجرف ناحية الأفلام التجارية بأربعة أفلام (الإمبراطور – كابوريا- البيضة والحجر- امرأة واحدة لا تكفي). يبذل أحمد زكي جهدا في التدقيق والاختيار في عام 1991 (الراعي والنساء – الهروب) عملين يعزفان نغمات جميلة وغير متكررة استلزمت عازف ماهر ومتمكن، يعقبهما بفيلم صنع خصيصا لأحمد زكي وبناءا علي المواصفات الادائية والنجومية, وهو "ضد الحكومة", وفي 1993تستدعيه سينما الاكشن في "الباشا" ليؤدي دور ضابط شرطة بمواصفات هوليودية, و"مستر كراتيه" بمواصفات تجارية. في عام 1994 أحمد زكي غول التمثيل واشطر ما انجبته السينما كان تركيزه الاكبر متجها ناحية خصمه العتيد عادل إمام.. وعندما نورد كلمات مثل منافسة – صراع، إنما نحاول أن نكشف أن المباراة النجومية انحصرت بينهما.. هما فقط ولا عزاء للكبار الموهوبون، علي أية حال قدم احمد زكي فيلم (سواق الهانم) وبطبيعة الحال لا يستطيع الفنان أن يجد طوال الوقت أدوار مثل "الهروب أو احلام هند وكاميليا"، لكنه يعاود مرة أخري لسينما استهلاكية في 1995ويرضخ لشروط السوق التجارية بعيدا عن التحليق بعيدا عن كل ابناء جيله وابناء الاجيال القادمة واللاحقة ويقدم (الرجل الثالث) وهو فيلم لا يمت بصلة للرجل الأول أو حتي للرجل الثاني.. يكفيه شرف التشابه في الاسماء، وقدم عادل امام "بخيت وعديلة" وحقق نجاحا كبيرا, والفيلم اصلا كان مكتوب لأحمد زكي وحدث مشاكل لم تمكنه من القيام به. ينشط ألفة الجيل ورئيس جمهورية التمثيل في عام 1996 ويقدم 4 أفلام وهي (نزوة – أبو الدهب- استاكوزا- ناصر 56) الاول كان اسما علي مسمي- والثاني اسما علي غير مسمي، والثالث حالة استجمامية ممتعة تفرغ الذهن المضطرب من الأعمال المركبة وضرورة للفنان للخروج الآمن والعودة مرة أخري، والرابع سيبقي منهج تدريسي لطلبة المعاهد الفنية الراغبين في التفوق.. وفي عام 1977 يقدم "حسن اللول" تجاريا صرفا لكنه عاش مع الجماهير. يعاود التحليق في 1998 ويستعيد عافيته الادائية الاستثنائية ويدرك أن القيمة تدوم وتصنع الخلود, ويقتنع أن ما حدث كان خللا اجتماعيا وليس سينمائيا, ويقدم 3 أفلام هي (هيستيريا- اضحك الصورة تطلع حلوة- البطل) ثلاث أدوار مختلفة بتفاصيل متباينة بشخوص تملك أمزجة خاصة في الحياة, لكنهم يتشابهون في سعيهم لتغيير واقعهم وما لحق به من مصاعب, ويكتشف داود عبد السيد جوانب ادائية أخري في "ارض الخوف" 2002, ويبهر الجميع نقاد وجماهير في "ايام السادات" 2001, ثم "معالي الوزير" 2002, حتي يأتي "حليم" 2006 آخر مشاهده وصولاته وجولاته. ثم يحط الطير بعد عناء الطيران والتحليق, ويسدل الستار علي أعظم ما انجبته السينما المصرية.