"محمد حمام " عذوبة البندقية.. وشجن النضال *بقلم :محمود دوير فى الذكرى 47 لنصر أكتوبر المجيد، تتذكر مدينة السويس الباسلة ومصر كلها صوت ابنها الراحل "محمد حمام ".. ذلك الصوت الجنوبي المغرد الذى عانى من حبس صوته فى السجون، وحمل عبئا ثقيلا، ما بين نضاله وانخراطه في صفوف العمل السياسي السرى من جهة، ورغبة عارمة في الغناء والانطلاق من جهة أخرى. ظل محمد حمام يقسم نفسه بين عمل سياسي – تنظيمي ودوره كمغنى وأحد اصوات المقاومة والتحدي. ""حمام " الذى ظل طائرا على جناح الحركة الوطنية المصرية منذ صباه حتى آخر نفس. جمع فى صوته شجن الجنوب الحالم وصرخة الثوار وكان دوما متسقا مع نفسه متصالحا مع قناعاته حول الفن والحياة. حرص "حمام" على تقديم الأغنية بشكلها السائد حين ذاك كلمات ولحن لكن عظمته فى أنه اختار أن يغنى للناس وأن ينحاز للقيم الإنسانية فى أعماله لم يكن محرضا زاعقا ضد الأنظمة بل كان خلال مشواره محرضا ضد الخنوع والاستسلام لواقع ظالم أو لانكسار مر أو لهزيمة مذلة. لم يتورط فى نموذج العاطفية الساذجة ومعانى الحب المستهلك وما أكثرها فى تراثنا الفنى لكنه فضل واختار أن يكون صوتا للناس وللمقاومة وصاغ فى ابداعه أفكاره دون مبالغة أو ادعاء. لكن الأروع فى مسيرة حمام منذ بدأ مشواره الفنى فى ذلك الدور الوطنى والسياسى الذى حرص على القيام به وعدم الإكتفاء بدوره كفنان وهذا النموذج النادر هو الذى وضع حمام فى مكانة مميزة وشديدة الخصوصية فى وجدان كل من عرفوه . وقال له المفكر الراحل الكبير محمود أمين العالم عن محمد حمام: "إن صوتك يمنحني حزنا ينتهي بالتفاؤل". لم يكن أحد قد سبق حمام من أبناء النوبة للغناء والانتشار خارج حدود الجنوب فقد توحد رنين صوته الذى جمع بين دفء النوية وأضواء العاصمة وموسيقاها مع صرخة المناضل وحلمه فى العدل والحرية وتعتبر تلك التركيبة النادرة لمغنى هى سر اختلاف حمام وتميزه، إضافة إلى امتلاكه مشروعا فنيا – رغم عدم اكتماله بسبب معوقات عديدة – وحرصه على دور للأغنية فى تغيير وعى الجماهير وتثوريهم وربط الغناء بالقضية الوطنية وأحلام الخلاص من المحتل ثم ارتباط الفن بشكل عام بإنحياز فكرى وايديولجى فإن هذه الثنائية التى حكمت مشروع "حمام " صنعت تميزه وصنعت معاناته التى قبلها وتعايش معها وظل مخلصا لما آمن به من أفكار. ولد "محمد سيد محمد إبراهيم " وشهرته "محمد حمام " فى 4 نوفمبر عام 1935 بالنوبة ثم سافر مع أسرته طفلا إلى القاهرة ودرس بها إلى أن دخل كلية الفنون الجميلة، لكنه بعد دخوله الكلية أعتقل في عام 1959 مع العديد من المثقفين المصريين، ومن بينهم الفنان التشكيلي والصحفي حسن فؤاد، الذي كان قد سمعه قبلها يغني الأغاني النوبية بالكلية وقدمه حسن فؤاد للحياة الفنية بعد خروجهما من المعتقل بينما قدمه للجمهور الناقد الراحل رجاء النقاش. كان لدخوله المعتقل على فترات متباعدة دور فى معاناته الفنية وتأخر انتشاره كثيرا بسبب مواقفه السياسية وانحيازاته التى لم يتخل عنها يوما، وحين تخرج من الجامعة عام 1968 بدأ مشواره الغنائي في حفل بسينما قصر النيل وغنى وقتها أول أغانيه من كلمات صديقه الشاعر مجدي نجيب وألحان الموسيقار محمد الموجي الذى قدمه خلال الحفل. ومن أحد الخنادق بمعسكرات تدريب المقاومة الشعبية عام 1968، وقف حمام أمام الجنود بصوت حماسي منشدا على ألحان السمسمية السويسية. " والله لا بكرة يطلع النهار ياخال والله لا بكرة يطلع النهار ياخال وتبقى الدنيا عال.. والشمس تيجي من ورا الجبال " كان يحمل صوته سلاحا ملهما يقوي عزيمة الجنود بعد النكسة في 1967، يغني للعساكر المصريين الذي كان يثق أنهم سيحققون الانتصار وظل مبشرا بقدرتهم على ذلك رغم أوجاع الهزيمة التى لم تكسر روحه. وأمام قادة الجيش المصري من خلال حفلات كانت تنظمها الشئون المعنوية كان صوتا صادقا للمقاومة ورفض الهزيمة والتبشير بالنصر. "الناس على المنارة لطول الليل سهارى وعيونها ع الحدود.. يا ليلة يا اللي فاتت.. النجمة ياما شافت، سنابل يا سنابل.. طالة من القنابل، بتقول يا شمس هالة.. على بلدي فوق الغلة.. ليلاتي راح نعود " كان صوت محمد حمام أحد أسلحة الشعب المصري في مقاومة الاحباط والهزيمة بعد نكسة يونيو، وبث طاقة تفاؤل بالنصر والتضحية وكانت اغنية "بيوت السويس" التى كتبها عبد الرحمن الأبنودى ولحنها إبراهيم رجب من أقوى وأهم أغاني المقاومة، وكانت دافعا ومحفزا لأهالى مدينة السويس العظيمة لاستلهام كل معاني البطولة على خط النار مع العدو الإسرائيلى وتقول كلماتها. "يا بيوت السويس... يا بيوت مدينتى استشهد تحتك...... وتعيشى أنت هيلا... هيلا... يالاه يا بلديا شمر دراعتك... الدنيا اهيه يا بيوت السويس " تلك الأغنية التي كانت أيقونة للمقاومة عقب نكسة يونيو، والتى حملها حمام وجاب بها معكسرات الجنود على الجبهة لتتغنى بها مصر من أقصاها الى أقصاها، وهى تقاوم الاحساس بالهزيمة. ورغم أهمية ودور هذه الأغنية الا أن نظام السادات قرر منع أغاني محمد حمام من الإذاعة عقب انتفاضة يناير 1977، والتي كان حمام أحد الداعمين لها والمتضامنين مع مطالبها، فذهب للعمل في الجزائر في مجال تخصصه كمهندس ثم انتقل لبغداد وسجل عدة أغان بصوته للإذاعة هناك. سافر إلى فرنسا، وشارك كمطرب وممثل في فيلم "سفراء " من إنتاج تونسي فرنسي مشترك. هذا الدور المركب الذى كان يشغل حمام طيلة حياته هو ما ساهم ربما في عدم إخلاصه للأغنية بشكل كامل كذلك حالة الحصار الإعلامى التى عانى منها فترات طويلة من حياته رغم أنه موهبة نادرة يحمل فى صوته اّهات المقهورين وهموم الفقراء وحنين الشعوب للحرية. فى السبعينيات مُنعت أغانيه في الإذاعة والتلفزيون على خلفيه موقفه الداعم لإنتفاضه الخبز عام 1977. وسجل بصوته أغنيته الشهيرة "بابلو نيرودا"، والتي حققت نجاحا كبيرا وبيعت منها آلاف النسخ في فرنسا وأمريكا اللاتينية والبلاد العربية. لم يكن "السفراء" هو الفيلم الوحيد الذي شارك فيه "حمام"، حيث قام بأدوار في بعض الأعمال السنيمائية منها فيلم "ظلال على الجانب الآخر" للمخرج الفلسطينى غالب شعث، وفيلم "الرحيل لا" وهو فيلم كويتي – مصري – سوداني، للمخرج ماجد عبدالله، كما قدم "سهرة نوبية" تلفزيونية من إخراج الفنانة مجيدة نجم. كان أول من قام بالغناء في تترات المسلسلات الإذاعية، مثل "الأم" و"شفيقة ومتولى"، والمسلسل الدرامي "الرحلة". من أشهر أغانيه "يابيوت السويس"، إلا أنه له العديد من الأغنيات منها: "سلامات"، "جدف يا مراكبي"، "قطر السفر"، "الناس على المنارة"، و"بابلونيودا"، "غرد يا حمام، "الليلة ياسمرا"، "والله لبكرة يطلع النهار يا خال"، كما غنى الكثير من أغاني التراث ومنها "جميلة جميلة"، "يا عم يا جمال"، "صندلية"، "امبوه حبيبتي ليمونة"، تشارك فيها مع أشهر الشعراء مثل الأبنودي، صديق كفاحه والمقاومة، عبدالرحيم منتصر، مجدي بخيت، سمير عبدالباقي، ومجدى نجيب وغيرهم. وكان "حمام " قد انخرط مبكرا فى صفوف الحركة الوطنية ودفع بكل حب ثمن مواقفه سنوات طويلة من التغييب خلف الأسوار وفى عام 1976 كان "حمام" أحد مؤسسى حزب التجمع الذى جمع بين صفوفه مئات الفنانين والمثقفين وخاض تجربة الانتخابات البرلمانيه مرشحا عن نفس الحزب فى أعوام "1987" ثم مرشحا عن دائرة قصر النيل وكانت قد انتخب فى 2003 لعضوية المكتب السياسى لحزب التجمع. رحل فى فبراير 2007 بعد رحلة قاسية مع المرض وتم نقل جثمانه بطائرة حربية إلى مثواه الأخير ملفوف جثمانه بعلم مصر وكان في استقبال الجثمان المستشار العسكري ومحافظ أسوان حيث أطلقت المدفعية إحدي وعشرين طلقه وعلق المحافظ قائلا: "إن حماسه وغناؤه مع فرقة السمسمية على الجبهة مع الفدائيين حتى كلل بالنصر ولا يقل عن أي جندى صوب مدفعه نحو العدو". كما نعته رئاسه الجمهورية ونكست الأعلام بمدينة السويس حزنا على وداع فنان قضى عمره من أجل وطنه وقضيته العادلة وأحلام البسطاء.