أمريكا.. السد العالى د.جودة عبدالخالق بالإنسان ترتقى الأمم. وبالذاكرة تنهض الشعوب. و بالتاريخ تنشط الذاكرة. و أمة بلا ذاكرة أشبه بقارب يبحر في مياه متلاطمة الأمواج بلا بوصلة أو دفة أو رَفَاص. فتكون عُرْضَة للهلاك. ومن هنا كانت الأهمية البالغة للتاريخ. وفى هذا السياق نذكر أنه وفى مثل هذه الأيام منذ نصف قرن، تم بالفعل إتمام مشروع السد العالى. ذلك المشروع الذى راود المصريين لسنوات وسنوات. تحل ذكرى اليوبيل الذهبى للسد العالى، أكبر المشروعات القومية لمصر على الاطلاق وواحد من أعظم مشروعات سدود الأنهار خلال القرن العشرين. فقد اكتمل العمل في المشروع في 15 يوليو 1970، وتم افتتاحه رسميا في يناير 1971. و للأسف لم يقدر لعبدالناصر افتتاح المشروع الذى بدأه وناضل من أجله! لقد كان إنشاء السد ملحمة مصرية وإنسانية بكل معنى الكلمة. حلمنا به زمنا طويلا ليحمينا من غوائل الفيضان والجفاف (السنوات السمان والسنوات العجاف). و ما زلت أذكر سنوات الطفولة والصبا في قريتى ميت العز، عندما كان أهل القرية جميعا يسهرون طوال الليل وقت الفيضان لحراسة الجسر الذى يحمى القرية من مياه النيل في فرع دمياط. كما لا زلت أذكر المثل القائل " قاعد متنكد زى اللى غرق داره". في كفاحنا لإنجاز المشروع عشنا أياما حلوة وأياما مرة. هتفنا خلف عبدالناصر في 26 يوليو 1956 "تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية"، وغنينا مع عبدالحليم "قلنا ها نبنى وأدى احنا بنينا السد العالى". في سبيل تحقيق حلم السد العالى، دخلنا معارك دبلوماسية مع القوى الكبرى وتعرضنا لحصار اقتصادى وواجهنا حربا تجارية شنتها علينا الولاياتالمتحدةالأمريكية (بإغراق السوق العالمية بالقطن الأمريكي لخفض سعر القطن بقصد الاضرار باقتصاد مصر) وأممنا شركة قناة السويس وخُضْنا حربا ضارية ضد العدوان الثلاثى في خريف 1956. و لم تكتف الولاياتالمتحدةالأمريكية بالإيعاز للبنك الدولى و الحكومة البريطانية بسحب عرضهما للمساهمة في تمويل مشروع السد العالى، بل انها تآمرت علينا وسعت إلى الإيعاز سرا إلى كل من إثيوبيا والسودان لمعارضة المشروع و إثارة المشاكل والاعتراض على المشروع في المحافل الدولية. إن الموقف الأمريكي الحقيقى من مشروع السد العالى يحتاج إلى دراسة مستفيضة وإعادة قراءة في ضوء الوثائق الأمريكية السرية المتصلة بمشروع السد العالى خلال الخمسينيات من القرن الماضى. هذه الوثائق قد فضت عنها السرية بالفعل بموجب قانون حرية المعلومات (FOIA) . وهى كنز ثمين لكل دارس جاد للعلاقات المصرية الأمريكية في تلك الحقبة الحساسة في ذروة الحرب الباردة بين المعسكرين. وعندما كنت أستاذا زائرا في كلية الدراسات الدولية المتقدمة في واشنطن العاصمة (والتابعة لجامعة جونز هوبكنز) في العام الجامعى 1988/89 قمت بالاطلاع على تلك الوثائق في أضابير قسم دار الوثائق القومية (National Archives) في مكتبة الكونجرس، وهذه الوثائق سوف تكون ضمن كتاب أعده الآن بمناسبة مرور 50 عاما على السد العالى. وأود أن أشير بالتحديد إلى البرقية المرسلة من سفير الولاياتالمتحدة في أديس أبابا إلى وزارة الخارجية في واشنطن بتاريخ 29 مايو 1956. فهذه البرقية وثيقة كاشفة عن النوايا الحقيقية للولايات المتحدةالأمريكية بخصوص قضية مياه النيل. ومن المفيد جدا قراءتها على خلفية المفاوضات الماراثونية الجارية منذ فترة بين مصر والسودان وإثيوبيا حول سد النهضة الاثيوبى (أنظر صورة البرقية). يقول السفير في الفقرة 3 من تلك البرقية بالحرف الواحد: "… إذا أعلنت الخرطوموأديس أبابا التصريح (الذى نقترحه طبقا لخطتنا بأن مشروعات مياه النيل يجب أن تناقشها كل دول الحوض) ثم بعده تكون "موافقتنا"، فلن يشك أحد في المنطقة في أننا قد دبرنا العملية بأكملها." أخيرا، أتمنى ألا يضيع الإعلام الوطنى هذه المناسبة وكأن إنجازا عظيما كهذا لم يحدث في مصر من نصف قرن! وعليه أن يبرز أن الشعب هو البطل الحقيقى, لذلك أنتهز هذه المناسبة وأدعو إلى تشكيل لجنة مستقلة لكتابة تاريخنا الحديث ( كانت هناك لجنة إعادة كتابة تاريخ ثورة 1952 شكلها الرئيس الراحل أنور السادات في 1975 برئاسة حسنى مبارك نائب رئيس الجمهورية وقتها. ولكن لم ينشر عن عمل هذه اللجنة شيء يذكر).