الطريقة التي سيصدق بها العالم أن الصين هي المسئول الأول عن الجائحة العالمية… و كيف صدق الجميع أن ترامب يناقض المشروع الاستراتيجي الأمريكي؟ نشر الكاتب ت.ج كولز هذا المقال في جريدة كاونتر بانش الأمريكية في الثامن من مايو 2020 ترجمة مارك مجدي تسعي الدعاية الأمريكية لإقناع الجميع بوجود تناقضات وهمية في المشهد السياسي الأمريكي, مثل أن إدارة ترامب تري أن الصين هي العدو الرئيسي للولايات المتحدة, في مقابل جو بايدن و فريقه الذين يعتقدون أن روسيا هي العدو الرئيسي عوضاً عن الصين و هكذا. ليست هذه الفروق في الرؤى سوي جزء رئيسي من التلاعب بالرأي العام العالمي و ايهامه أن هناك تناقض في الرؤية الأمريكية فيما يخص اللاعبين الدوليين, بغرض تحقيق مكاسب استراتيجية في الخفاء و إرباك الخصوم. إن سلوك ترامب المعادي للصين, بما فيه توجيه الاتهامات لها فيما يخص فيروس كورونا و قوله أن الصين هي الفيروس نفسه, هو استمرار في مخطط بناء و توسع الامبراطورية الأمريكية الذي بدأ قبل مجيء ترامب إلى السلطة منذ زمناً بعيد. الفرق الوحيد أن ترامب لا يحظي بنفس القدر من التستر علي الأخطاء الذي حظى به أوباما, رغم أنه أرتكب أخطاء ليست أقل جسامة من ترامب. و رغم أن وسائل الأعلام المختلفة قد تنتقد ترامب علناً, إلا أنهم يعملون جميعاً لتركيع التنين تحت أقدام العم سام. كيف بدأ استهداف الصين؟ عام 1980 رحبت الولاياتالمتحدة بتبني الصين لسياسات الانفتاح الاقتصادي التي استمر معظمها لوقتنا هذا. و اعتبر البنك الدولي النموذج الصيني نموذجاً ناجحاً كوجهه للاستثمارات الخارجية . أصبحت الصين مصنع العالم الذي يلبي احتياجات المستهلكين في أوروبا و الولاياتالمتحدة, حتي تحولت إلى مستثمر عالمي رئيسي و قوة اقتصادية كبري. أدت هذه السياسة إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي بشكل غير مسبوق لتنتقل الصين إلى المرحلة التالية. و هو ما يطلق عليه “معضلة العولمة”. و للتأكد من أن الصين ستسمر في العمل لصالح الشركات الأمريكية دون أن تُشكل خطراً علي الهيمنة الأمريكية, تعتمد الولاياتالمتحدة علي استراتيجية عسكرية يطلق عليها “سيطرة الطيف الشاملة ” : و هي ترتكز علي استدعاء كافة أنواع و استراتجيات الحروب لتهديد الصين : طائرات فائقة السرعة, قاذفات قنابل متطورة, الحرب السيبرانية, حرب الفضاء الخ.. عام 2000, صرحت أحد المنظمات البحثية, التي انتمي إليها الرئيس جورج بوش ( مشروع القرن الأمريكي الجديد) أن “الولاياتالمتحدة اكتسبت وجوداً عسكرياً راسخاً في الخليج العربي, و لكي تستطيع أن تضاهي الولاياتالمتحدة الصعود الصيني كقوة كبري عليها أن ترفع مستوي التواجد العسكري في شرق أسيا, علي الجيش أن يحافظ علي التفوق العسكري الدائم في المنطقة لطمأنة حلفاؤنا هناك”. لكن الرئيس بوش كان منشغلاً بقتل الأفغان, العراقيون, الباكستانيون, الصوماليون و اليمنيون كجزء من حربه المزعومة علي الإرهاب. بينما تنبه أوباما للظاهرة و أعتبر شرق أسيا كأحد محاور الارتكاز الرئيسية لضمان استمرار الهيمنة الأمريكية علي العالم. و في تهديد صريح للصين ضغطت الولاياتالمتحدة علي اليابان لإلغاء بند السلام في الدستور – و هو الذي فُرض علي اليابان من الولاياتالمتحدة بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية لمنعها من التسلح, فأنطلقت اليابان لصناعة السلاح في مواجهة الصين, و وضعت الولاياتالمتحدة أنظمة صواريخ نووية جديدة في كوريا الجنوبية بالإضافة لمنصة تشغيل لسلاج آخر يعمل في الفضاء X-37B انطلق من تايوان . ثم أعلن وزير الدفاع أنذاك ليون بانيتا أنه بحلول عام 2020 ستنتقل 60 بالمئة من السفن العسكرية الأمريكية إلي بحر الصين الجنوبي, و هو ما يفسر الانسحاب العسكري التكتيكي من الخليج الذي يحدث الآن. بالإضافة لمعاهدة شراكة المحيط الهاديء التي استهدفت أن تجبر جيران الصين علي الاستثمار وفقاً للرؤية الأمريكية, لكنها بائت بالفشل. و الآن, بالنسبة لجماعة ترامب, كل ذلك ليس كافياً. لقد قدم كوفيد-19 فرصة ذهبية لترامب لتكثيف الدعاية المعادية للصين و تنفيذ مخططه الذي يخدم فئاته المفضلة من بين فئات الرأسمالية الأمريكية. إشارة البدء في تصريح محذوف من قبل مؤسسة ووهان لأبحات الكائنات الدقيقة و الفيروسات في بدايات 2018, قال أن مسئولون أمريكيون قاموا بزيارة و تفقد معامل المؤسسة. ” قامت المؤسسة بتعزيز التعاون مع مجموعة من المنظمات الأمريكية المعروفة كمؤسسة العلوم الوطنية, تحالف إيكوهيلث, القسم الطبي بجامعة تكساس و مختبر جالفستون الوطني بالإضافة لسلسة من الزيارات الأكاديمية المتبادلة”. لم تظهر أي تحفظات أمريكية علي المختبر الصيني أنذاك, بما في ذلك أثناء المؤتمر الصحفي. و لكن سيقال لنا لاحقاً أن التحفظات قيلت في السر, و أن الفيروس خرج من المعمل. في أبريل 2020, بدأت بعض الصحف و القنوات الأمريكية بنشر مقالات و تصريحات دعائية تتهم الصين. في 6 أبريل, اقتبس روبرت كونزيا و درو جريفين أحد أبرز إعلاميي CNN تصريح أحد المتخصصين من جامعة روتجرز ” احتمالية أن يكون الفيروس انتقل إلى البشر نتيجة لحادثة في أحد المعامل واردة و لا يجب أن نرفضها بالكامل”. و في 14 أبريل, أعلن جوش روجين الخبير و المحلل الأمني بواشنطن بوست أن لديه وئائق ترجع لعام 2018, تزعم هذه الوثائق أنه كان هناك تحفظات أمريكية علي مؤسسة ووهان لعلوم الفيروسات و الكائنات الدقيقة. ” أثناء التفاعل مع العلماء في المؤسسة…, لاحظنا أن المختبر الجديد به نقص ملحوظ في الخبراء التقنيين اللازمين لتشغيل و تأمين هذا المختبر عالي التقنية”. أقتبس جوش روجين من مسئول أمريكي مجهول:” كانت هذه الوثائق كالطلقات لتحذيرية… كنا نتوسل المسئولين لكي يعيروا الانتباه لما يدور هناك”. مشيراً إلى رأي الكاتب ديفيد أغناطيوس, أن القصة الرسمية التي أعلنتها الحكومة الصينية أن الفيروس انبثق عن أحد أسواق المأكولات البحرية تبدو “متداعية”, ثم يقتبس روجين مرة أخري عن المسئول المجهول:” هناك تحفظات مشابه فيما يخص مركز ووهان لمواجهة الأوبئة , و الذي يعمل وفقاً لمعيار الأمان البيولوجية من المستوي 2, و هو ما وصفه بمستوي غير آمن مقارنة بمؤسسة ووهان للعلوم الدقيقة التي تعمل بتدابير المستوي 4″. و من هنا انطلقت وسائل إعلامية أخري استناداً علي مزاعم الواشنطن بوست ضد الصين. في 16 أبريل, قالت CNN” قال أحد موظفي الاستخبارات أن أحد النظريات التي تدرسها المخابرات الأمريكية تستند علي أن الفيروس أنتج في مختبر في ووهان و انتقل إلى الخارج دون قصد”. الضغط علي الإعلام الكذب و الابتزاز و تجارة المخدرات و الخطف و التعذيب و فوق كل شيء القتل, هي مهمة الأجهزة الاستخبارتية. ففي العشرين سنة الأخيرة فقط تم تثبيت اتهام علاقة بن لادن بحادثة 11 سبتمبر, و ربط العراق ببن لادن, و تلفيق تهمة تصنيع أسلحة الدمار الشامل للعراق, و اتهام ليبيا بالتطهير العرقي في بني غازي, و تلفيق هجوم الغاز في سوريا للوم النظام و غيرها من الحوادث… قال مايك بومبيو – أثناء حملة ترامب الانتخابية ناقداً لإدارة أوباما- و هو مدير المخابرات المركزية السابق و وزير الدفاع الحالي:” كذبنا و زيفنا و سرقنا- و هذا ما تدربنا عليه”. في 29 أبريل, قالت وكالة NBC ” مثلما حدث في “الحرب علي الإرهاب” لربط العراق بأحداث 11 سبتمبر في فترة بوش, تعتمد إدارة ترامب علي الاستخبارات. مثل المخابرات المركزية الأمريكية و وكالة الدفاع الاستخباراتية و المركز الوطني للاستخبارات الطبية و الاستخبارات العسكرية, الذين تلقوا جميعاً أوامر مباشرة من إدارة ترامب للبحث و التفيتش في تسجيلات المحادثات و التقارير و صور الأقمار الصناعية, و أي معلومات ممكنة تصلح أن تكون أساساً للمزاعم التي تدعي أن الصين علمت بالفيروس و حاولت التعتيتم علي انتشاره, و لاحقاً ستُتهم منظمة الصحة العالمية وفقاً لهذه الرواية. كما قالت وكالة NYTأن بومبيو ” أكثر المعارضين للصين في الإدارة الأمريكية, بدأ في دفع أجهزة الاستخبارات الأمريكية للحصول علي مزيد من المعلومات لاتهام الصين بالتستر علي الفيروس”. جدول ترامب الزمني في اليوم التالي 30 أبريل في التاسعة و الربع, صدر تصريحاً صحفياً استثنائياً ” ستستمر أجهزة الاستخبارات في تفقد المعلومات القادمة, و التي ستحدد ما إذا كان الفيروس قد ظهر نتيجة التعامل مع حيوان مصاب أو بسبب حادثة هروبة من مختبر في ووهان”. في الساعة الحادية عشر و النصف نشرت وسائل الأعلام هذا التصريح. التوقيت بالغ الأهمية, لأن معادين ترامب يقدمون الانطباع بأن إدارة ترامب تعمل في مواجهة أجهزة الاستخبارات, بينما حقيقة الأمر أن هذه الأجهزة تنفذ التعليمات بحذافيرها. لاحقاً في ذات اليوم في حدود الساعة الرابعة و النصف, قال ترامب للمحررين:” لدينا أربع أو خمس تصورات للطريقة التي نشأ بها الفيروس. سنعرف الاجابة بعد وقتاً ليس ببعيد, و سيحدد ذلك شعوري تجاه الصين”. سأله لاحقاً أحد الصحفيين” هل اطلعت علي أي دليل مؤكد أن مؤسسة ووهان للعلوم الدقيقة هي مصدر الفيروس؟” فأجاب ترامب” نعم, نعم”. و في سؤال آخر لترامب :” هل تقترح أن لديك دليلاً أن هذا الفيروس لم يكن نتاجاً طبيعياً؟” أجاب ترامب:” لا, سنري من أين أتي. هناك نظريات عديدة, الخفاش و أنواع الخفافيش و الخفاش يبعد 40 ميلاً… سنري”. ثم وجه صحفياً أخر سؤالاً لترامب:” ما الذي يعطيك درجة عالية من الثقة أن الفيروس خرج من معامل مؤسسة ووهان للعلوم الدقيقة و الفيروسات؟” فأجاب ترامب:” لا أستطيع أن أجيب عليك. ليس مسموحاً لي”. يتضح إذن من تطور الأحداث كيف تعمل الأجهزة التنفيذية بتنسيق عالي الدرجة نحو التصعيد في مواجهة الصين و اتهامها بالتسبب في جائحة عالمية, و هو ما سوف يؤثر بالسلب علي الصعود الصيني الذي يهدد الهيمنة الأمريكية علي العالم. سيحدد رد الفعل الصيني مسار الأحداث القادمة, و قد تؤثر الانتخابات الأمريكية علي كفاءة هذه الخطة في حالة مجيء بايدن, و لكنها ستستمر بأي حال من الأحوال.