تحمل ملامح شعبية غير مزيفة، طبيعية جدا، وكأنها ثمرة برتقال قطفت لتوها، لا تستطيع ان تخفى مصريتها الشديدة جدا والواضحة وضوح الشمس، تكشف بشموخ وكبرياء عن طبقتها، ولو تصادف وارتدت السواريه والفرير والسوليتير، او ركبت السيارات الفارهة واقامت فى القصور الفاخرة، واعتوج لسانها بلغات شتى، فإن العين لا تخطئها ولا تنخدع فيها.. انفاسها تفضحها وتكشف عن هويتها، تتحول فى لمح البصر من كائن وديع هادئ (او هكذا يبدو) إلى عفريت يمشى على الحيطان ويتسلق الحبال، تغنى وترقص وتمثل، وتلقى النكات، تسخر من الواقفين والجالسين، تحمل ألف لسان وألف حركة وألف ايماءة وألف نظرة وألف احساس فى آن واحد، عندما ينطلق لسانها فإن الكلمات تخرج كطلقات الرصاص سريعة مهرولة وفى كل الاتجاهات ولا تخطئ أهدافها، فهى تستطيع ان تفرز الناس جيدا ولا تخدعها المظاهر الكاذبة، لمبة مضيئة سريعة الاشتعال والانصهار تحرق من يقترب منها، فلا احد يستطيع لمسها او منازلتها، ومن يحاول مشاكستها، يستحق ما يلاقيه. انها نعيمة عاكف (7-10-1929 -23- 4-1966) بنت بلد وبنت فن وبنت نكتة، فنانة بجد، صنعت لها مكانة ظلت شاغرة حتى يومنا هذا. فى كل حارات مصر هناك من يشبهها، تزغرد فى الافراح وتلطم خدودها فى المآتم وتجامل فى خناقات جيرانها من دون ان تعرف من هى العروسة او من مات او من تسبب فى الشجار، فتحت عينيها حين لم تشتد ساقيها بعد على الالعاب البلهوانية والاكروبات فى سيرك والدها بطنطا، فلم يكن غريبا أن تتعلم الرقص فى سن الرابعة، وقد ساعدها ذلك على مواجهة الجمهور من غير رهبة أو خوف فى هذه السن المبكرة، بعد انفصال والدها عن والدتها، نزحت الام إلى القاهرة وسكنت شارع محمد على تحتضن بناتها واستطاعت تكوين فرقة متجولة، كان لابد من مصدر يطعم هؤلاء البنات ويسد عنهم الحاجة، بعد سنوات قليلة من التجول والتعب تنجح الام فى تقديم هذه العروض على إحدى مسارح روض الفرج، وعندما يشتد عود “نعيمة” تلتحق بفرقة بديعة مصابنى وهى لم تتجاوز السادسة عشر، حتى يستقر بها الحال فى ملهى الكيت كات لتصبح نجمته الأولى، وبالصدفة واثناء وجود المخرج أحمد كامل مرسى فى الملهى يشاهدها وهى ترقص فيعجب بادائها ويتفق معها على فقرة راقصة فى فيلم “ست البيت” بطولة فاتن حمامة وعماد حمدى، ومن صدفة لاخرى تخبئ الأيام للشابة الصغيرة فرصة اكبر فى شارع الفن، عندما يشاهدها حسين فوزى ويعجب برقصها ويفتن بها، لم يمر وقت طويل حتى يقدمها فى أول افلامها «العيش والملحِ» عام 1949 أمام سعد عبد الوهاب، وبعيدا عن الفيلم الذى حقق ارباحاً طائلة، أو شهور عرض امتدت 6 شهور فى سابقة لم تتكرر كثيرا، أو ما حققه فى لبنان من نجاحات، وبعيدا عن الاستقبال الرائع من قبل الجماهير او المهمتين بالسينما، فأن اول مشاهد نعيمة عاكف كان اشبه بطلقة رصاص، حضور عالى وقبول من اول لحظة ولياقة فى اخراج الكلمات وقدرة على استرعاء الانتباه دون ضجيج وبسهولة، اداء حركى رشيق دون تكليف، خفة دم غير مفتعلة تذيب المسافات، ثقة فى النفس وكأنها مولودة فى الاستوديو، من اول لقطة تشعر بالالفة بينها وبين الكاميرا وكأنها تحتضنها وتقبلها، فهى لم تسقط على الفن من فوق، ولم يحدث فى تاريخ السينما المصرية ان شهدت الطلة الاولى لاى نجمة كل هذا التوهج. تنبه حسين فوزى لموهبتها فوقع معها عقد احتكار لمدة 10 سنوات اثناء تصوير فيلم “العيش والملح” فأدرك الرجل بخبرته الطويلة بأنه امام موهبة متفجرة تملك طاقات هائلة، ويبدو ان الرجل كان يخشى عليها من الدخلاء فاعقب عقد الاحتكار بعقد آخر شرعى، وتزوجا بالفعل وبفارق عمرى تجاوز 26 عاما لم يشكل معضلة فى البداية وانتقلت من شارع الفن (محمد علي) الى شوارع اولاد الذوات فى فيلا انيقة بمصر الجديدة، وبدأت النجمة الصغيرة مشوارها الفنى مع مخرج كبير كان يعرف جيدا كيف يستغل امكاناتها، وقدما معا (لهاليبو، حلاوة الحب، جنة ونار، نور عيونى، تمر حنة، احبك يا حسن وبحر الغرام) لكن مياه الزواج تعكرت ربما بفعل الغيرة او الفارق السنى، مما استحال معها دوام العشرة بينهما، وتم الانفصال فى هدوء لتتزوج من المحاسب محمد عبد العليم وتنتقل مرة اخرى الى حى آخر وهو الزمالك لتعيش فى هدوء وسكينة يبدو انها ارتضتهما وانجبت منه ولدا. تميزت نعيمة عاكف عن الكثيرات بالمرونة واللياقة، حتى ان احد خبراء الرقص صرح بأنها كانت الوحيدة من بين راقصاتها جيلها التى تجيد فن تكتيكات الرقص الشرقى، فهى كانت دائما تصمم رقصاتها بنفسها حتى تداوم على إعطاء الجديد فى كل ظهور لها، وفى عام 1957 اقيمت مسابقة للرقص الشعبى فى مدينة موسكو على المستوى العالم، واختيرت احسن راقصة. ليس باستطاعة أى فنان أن يقلب حالات الجد الى هزل والهزل الى جد، والضحك الى بكاء والبكاء الى ضحك فى لمح البصر، فتلك قدرات خاصة تحتاج لوجه مطاطى يسهل تطويعه، قادر على استدعاء الاحاسيس لتواكب الانفعالات المختلفة وهى اشياء كانت تفعلها “نعيمة” بتلقائية مذهلة ودون معاناة، لذلك عند تقييمنا لاداءها التمثيلى نكتشف ان مهارتها الفائقة فى الرقص ظلمتها تمثيليا. هناك ايضا شئ لافتا يسترعى الانتباه والتوقف، فمن يتأمل أعمالها الأولى يكتشف بسهولة ان لعينيها بريق جامح ونن لا يستقر فى مكانه، زائغ يبحث عن شيء ينقصه، عيون منطلقة طموحة لا تكتفى بالنظر حولها بل لديها رغبة فيما ابعد من ذلك، فالقوة والمغامرة وحب الدنيا اشياء واضحة، ومن يتأمل اعمالها الاخيرة يرى عكس كل ما ذلك، يبدو الانكسار بعد ان استقر النن وسكن وارتضى بالضعف وقلة الحيلة والمقاومة وراح التحدى ليحل محله نظرات استكفاء ان هذه التحولات كانت واضحة هى ايضا ولا تخطئها العين، لكنها بلا شك تدمعها. نجمات كثيرات عندما اقتحمن المجال الفنى كن يتمتعن بموهبة تصاعدت ونضجت مع السنوات والخبرات.. وبدا الفارق واضحا بين بداياتهن وأعمالهن الاخيرة وهذا امرا طبيعيا، لكن نعيمة عاكف بدأت حياتها الفنية بوهج كبير لم ينطفئ، ربما تكون الاضواء انحسرت عنها فى السنوات الاخيرة، قد يكون بسبب طلاقها من حسين فوزى الذى قدمت معه اجمل اعمالها، أو كما يقال بأنها وعدت زوجها الثانى بعدم ارتداء بدلة الرقص مرة اخرى، او المرض الذى بدا يزحف عليها، وايا ما كان السبب فإن الواقع يؤكد ان طلقة الرصاص لم تجد قوة دفع للانطلاق بقوة مثلما كانت من قبل. كان فيلم «بحبك يا حسن» 1960أمام شكرى سرحان هو آخر تعاون فنى بينها وبين حسين فوزى، ونستطيع ان نقول ان أعمالها التى قدمتها بعد الانفصال لم تلقى الحفاوة التى كانت تستقبل بها افلامها السابقة، ولا يعنى ذلك ان البساط سحب من تحت قدميها لكون نجمة جديدة ظهرت، فلم تظهر فنانة تجرؤ أن تصرح فقط انها خليفة لنعيمة عاكف، او لانها لم يعد لديها جديد، واما تكون اكتفت بما حققته من شهرة أو يكون تم تجاهلها عن قصد ومجاملة للبعض. فى عام 1963 قدمت أمام رشدى اباظة وتحية كاريوكا ومحمود المليجى فيلم (خلخال حبيبي) فى دور عادى لا يضيف جديد لنجمة الاستعراض الاولى فى الشرق الاوسط، وكان يمكن لأى ممثلة اداءه وليس فنانة بحجم وموهبة نعيمة عاكف الذى ملأت الدنيا صخب وضجيج، وفى نفس العام قدمت فيلم «بائعة الجرايد» الذى مثل صدمة كبيرة لكل جماهيرها، لدرجة ان البعض كان يتشكك فى وجودها بالعمل، فكثيرون لم يصدقوا ان نجمتهم الموهوبة تقف وراء نجمة مهما كانت فى دور باهت، وهل كان الفيلم يريد توصيل رسالة ما للجماهير، وفى عام 1965 تقدم مع فريد شوقى فيلم «امير الدهاء» فى دور صغير كما انها تظهر فى النصف الاخير من الاحداث وفى مشاهد قليلة جدا، وفى نفس العام تشارك شكرى سرحان بطولة فيلم «الحقيبة السوداء» ولم يختلف الامر كثيرا عما قبل، ان كثير من الافلام التى انتجت فى هذه الفترة لم تختلف كثيرا عما قدمت نعيمة عاكف، لكن كل ذلك يبدو مقبول ونحن نتحدث عن فنانات عاديات، اما نعيمة عاكف فالامر يدعو للاسف وللاستغراب. قدمت نعيمة عاكف 22 فيلما فى خمسة عشر عاما هى عمرها الفنى، استعانت بمن يعلمها اللغات فاتقنت الانجليزية والفرنسية وعوضت ما فاتها من التعليم حالت ظروفها الاجتماعية من الالمام به، ورغم ان سنوات غيابها عن الساحة اقتربت من نصف القرن لكن مكانها ظل شاغرا رغم ظهور مواهب كثيرة، لم تحظ احداهن بما حققته. تشتد آلام المرض اثناء تصوير فيلمها الاخير «من اجل حنفي» امام احمد رمزى وحسين رياض، ولا تستطيع مقاومته فيستسلم الجسد الذى انهكته سنوات التعب والشقى وبدأت رقصتها الاخيرة تقترب من نهاياتها ولكن هذه المرة وسط صمت وذهول الجميع، وتبدلت كلمات التشجيع الى رثاء والضحك الى نحيب والتصفيق والاعجاب الى حزن عميق ودموع غزيرة. لكن تظل نعيمة عاكف حالة استثنائية لم يظهر لها أصل أو تقليد.