بمجرد أن تنظر إلى الشارع المحيط بمستشفى ” أبو الريش ” للأطفال، الصرح الكبير التابع لكلية طب قصر العيني جامعة القاهرة، ستجدهم يفترشون مداخل وسلالم المباني والطرقات المواجهة لشباك التذاكر، طوابير فوق الأرصفة، وأخرى في الطرق المؤدية إلى “الطوارئ والعيادات”، كل ينتظر سماع اسم ابنه في قوائم الانتظار . جاء هؤلاء من جميع المحافظات وقطعوا آلاف الكيلومترات، للبحث عن علاج لأطفالهم، بعضهم يبحث عن مسكن أو يتواصل مع أحد أقاربه، للإقامة لديه قبل أن يتجه فجرا إلى المستشفى، والبعض الآخر يضطر إلى النوم في الشارع أو على الرصيف، أمام بوابة مستشفى أبو الريش للأطفال أو كما يطلق عليها أهالي المرضى “مستشفى العذاب والموت” ، حتى يتمكنوا من حجز تذكرة الكشف مبكرا. أطفال في عمر الزهور، تهتز أمامهم القلوب المتحجرة، فهذا المستشفى العريق يعانى بين جدرانه المرضى الألم مضاعف ما بين ألم الجسد وألم الانتظار والإهمال حتى يحصلوا على العلاج أو يتمكنون من إجراء جراحة عاجلة أو حجز سرير حضانة، فإذا وجد أهل المريض أكياس الدم، التي يشترونها بأضعاف ثمنها لا يجدون الدواء، وإذا تواجد الطبيب غابت الممرضة والعكس، أما المسئولون فغير موجودين وكأنهم في غيبوبة في معايشة إنسانية، رصدت “الأهالي” حكايات أهالي الأطفال على رصيف أبو الريش الجامعي، فمع بداية شروق الشمس، جلس البعض أمام باب المستشفى في انتظار خبر، يطمئنهم على أطفالهم، والبعض الآخر ينتظر حصول فلذة كبده على دور في غرفة العمليات الجراحية بالمستشفى، والاخر يستغيث لتوفير حضانة لطفله . شراء الدم ومن محافظة الغربية، جاء سيد عبد التواب، والذي أخبرنا أنه جاء إلى المستشفى، بعد أن ظهر على ابنه ” مروان “، أعراض برد وسخونة مستمرة، ناجمة عن التهاب الأعصاب وتمزق في بعض الأوتار، قائلا : ” رغم أنني جئت في السادسة صباحا إلى مستشفى أبو الريش، إلا أنه حتى الواحدة ظهرا، لم أستطع الكشف على ابني المريض الذي يحتاج إلى إجراء عملية تطويل أوتار الأرجل، بسبب الزحمة . وأشار إلى أن المستشفى طالبته بالتوجه إلى مستشفى قصر العيني الفرنساوي، لشراء أكياس الدم الذي سيحتاجها ابنه أثناء العملية قبل تحديد موعدها من الأساس،موضحا أن تكلفة شراء كيس الدم 300 جنيه للكيس الواحد، وابنه يحتاج لكيسين دم بتكلفة 600 جنيه، بالإضافة إلى أن المستشفى تلزمه أيضا بالتبرع بالدم،إضافة إلى إجراء الأشعة التليفزيونية، والتحاليل العادية على حسابه الخاص، وهو ما لا يستطيع تحمله . عيون منهكة أما على سعد، ذو الوجه البائس، والعيون المنهكة من المرض، والذي يعانى من الفشل الكلوي، والذي يتجاهل مرضه في سبيل علاج ابنته، التي لم تتم العاشرة من عمرها، والمصابة بمرض ” الثلاسيميا أو أنيميا البحر المتوسط “، قائلا : ” المرض بيأكل في جسم ابنتي من أول ما أتولدت، كل أسبوع يتم نقل أكياس دم لها، لكن البهدلة بتتعبنا أكتر من المرض، حقي على البلد دى أنها تعالج بنتي من غير ما تذلني لطبيب أو ممرض، يا ريت يكون فيه علاج نهائي يخلصنا من الذل ده ” . وأكد أن الأطباء أخبروها بأن حالة ابنته ليس لها علاج، وعليها فقط أن تأخذ أكياس الدم في موعدها المحدد،قائلا : ” والله العظيم محضر كفن ابنتي في البيت، بس هفضل أروح واجى بيها طول ما ربنا كاتب لها عمر، ساعدونا نتعالج من غير ما نتهان، الكرامة غالية ومش كاسرنا غير أن تكلفة العلاج غالي أوى ومش معانا ” .
موعد العملية كما قالت نجوى محمود، والدة أحد المرضى من محافظة كفر الشيخ، أنها تنتظر أمام المستشفى منذ 4 أيام، لحين تحديد موعد لابنتها، لإجراء عملية في المخ ، قائلة : ” أنا ببات في الشارع، ممعيش فلوس أسافر وارجع كل يوم ولا حتى أجر أوضة فوق السطوح ” . وأضافت أن زوجها يعمل فلاحا باليومية، ولا يوجد له مصدر رزق ثابت، يساعدهم على مواجهة مصاعب الحياة، موضحة أن ابنتها تعانى من ضمور في المخ، بسبب نقص الأكسجين منذ ولادتها، ثم تدهورت حالتها بشدة خلال الأيام الأخيرة، وأصيبت بآلام شديدة بأطراف اليد والقدم، فلم يجدوا أمامهم سوى التوجه إلى المستشفى، لعلاج الطفلة من الشلل الدماغي .
على السلم على سلم الدور الرابع ، جلست والدة أحد المرضى، رفضت ذكر اسمها، بابنتها، تنتظر دوره في إجراء عملية جراحية بالقلب، بينما الأب ظل واقفا يفكر في طرق لإنقاذ ابنته الوحيدة، بعد فشل العملية، التي قام بإجرائها لها خارج مستشفى أبو الريش والتي كلفته 25 ألف جنيه، وعند دخلوه ” أبو الريش ” أجبروه على دفع ثمن التحاليل والأشعة، التي قام بإجرائها خارج المستشفى والتي تكلفت 700جنيه ، ولم يعترفوا بها، قائلا : ” ربنا وحده اللي يعلم أحنا بنجيب الفلوس دى إزاى وبنبيع إيه علشان نعالج بنتنا، ربنا يعيننا ويشفيها لنا بس بعد المرار ده كله “.
حضانات الأطفال لم تنته معاناة ” أبو الريش ” على تأخر إجراء العمليات أو الكشف فقط، وإنما وصلت لعدم وجود أسرة حضانات للأطفال الرضع ، وهذا ما أكدته سناء يحيي، تعاني من أسعار الحضانات داخل القطاع الخاص، والتي التقينا بها في مستشفى أبو الريش، إنها منذ 4 أيام تبحث عن حضانة لطفلتها الرضيعة، ولكنها بعد الكثير من البحث، أدركت أنها لا تستطيع إدخال ابنتها ” حضانة خاصة ” سوى ليوم واحد فقط، بسبب ارتفاع تكلفتها، لذلك تنتظر على سلالم مستشفى ” أبو الريش “، حتى تتحسن صحة طفل من الحضانة وإخراجه، ووضع ابنتها. وأضافت أن الدولة يجب أن توفر حضانات لمحدودي الدخل، الذين لا يقدرون على دفع أسعار المستشفيات والمراكز الخاصة، قائلة : ” أنا جوزي ارزقي، يوم فيه فلوس ويوم لا، اعمل أيه، اسيب بنتي تموت، ارحمونا وارحموا أولادنا اللي بيموتوا كل يوم من المرض ” . حق دستوري وقال الدكتور محمد حسن خليل، رئيس لجنة الدفاع عن الحق في الصحة، إن العلاج المجاني هو حق دستوري لكل مواطن، بأن تتكفل الدولة بتقديم الخدمات الصحية والتأمينات الاجتماعية لجميع المواطنين، طبقا لبنود دستور 2016، مؤكدا أن هناك قصورا واضحا في قطاع الصحة الأمثل، مطالبا بتطوير العنصر البشرى، وإيجاد حلول حقيقية لإنهاء مشاكلهم، وزيادة موارد الصحة، وتقديم الدعم المناسب للأنظمة المالية والإدارية والفنية، في المجال الطبي بكل أنواعه، والتنسيق مع جميع مستشفيات ومراكز الرعاية الطبية في القرى والمدن، على أن تكون هناك خدمات صحية متميزة وعالية المستوى، ونسعى إلى علاج التقصير. وتابع أن مصر تمتلك 98 ألف سرير حكومي يغطى كل المستشفيات الجامعية ومستشفيات وزارة الصحة وهيئاتها ومستشفيات مصلحة السجون ووزارة الزراعة، موضحا أنه إذا أضفنا عدد أسرة مستشفيات القطاع الخاص، سيصل عدد الأسرة في مصر 123 ألف سرير، وبالتالي سيكون هناك 1٫1 سرير حكومي لكل 1000 مواطن ومما يدل على أن هذا المعدل مقارنة بالمعدلات العالمية متواضع جدا. غياب المستشفيات المتخصصة ومن جانبه قال الدكتور محمود فؤاد، مدير المركز المصري للحق في الدواء، إن مستشفيات الأطفال في مصر لا تتعدى ال10 مستشفيات،أو ربما لا تكمل هذا العدد، أشهرها أبو الريش المنيرة، أبو الريش الياباني، وأطفال مصر، فلا توجد مستشفيات للأطفال متخصصة في أمراض القلب وسيولة الدم وأمراض حوض البحر المتوسط وأمراض السكر في الأطفال والتقزم. وأشار إلى وجود أطفال مصابين بأمراض خطيرة لا يوجد لها مستشفيات متخصصة أو حتى أقسام صغيرة مثل أمراض سيولة الدم، والتي يصاب بها الطفل وهو جنين وتحتاج لنوع معين من الحقن، لوقف النزيف ويصاب الطفل المريض القادم بهذا المرض، بمضاعفات كثيرة، نتيجة طبيعية لاستمرار النزيف دون توقف، بالإضافة إلى مرض حوض البحر المتوسط والأورام المنتشرة وظهور أمراض جديدة للأطفال مثل التقزم والسكر وضمور العضلات ومعظمهم من أسر بسيطة من شرق الدلتا وهم تحديدا أكثر الناس ضياعا في المجتمع . وأضاف أنه في ظل ظهور تلك الأمراض لا توجد وحدات كافية أو مستشفيات متخصصة لها مع انعدام توافر أطباء متخصصين أو استشاريين للتعامل مع هؤلاء الأطفال المصابين بهذه الأمراض، موضحا أنه لدينا عجز ونقص في عدد الأسرة بشكل عام منذ عام 2010، فلا يوجد لدينا سوى سرير واحد لكل 218 ألف نسمة، نتيجة لعدم وجود دعم للمستشفيات ولا حتى إنشاء أقسام جديدة، وفى نفس العام، شهد زيادة في عدد الأسرة للقطاع الخاص، مما يدل على أن هناك قطاعا ينمو ويسيطر وقطاعا آخر يتراجع .