*بقلم د. جودة عبدالخالق : أعلنت وزارة التخطيط مؤخرا أن معدل نمو الناتج المحلى قد إرتفع إلى 5.6% فى عام 2018/19. كما أعلن الجهاز المركزى للتعبئة العامة و الإحصاء أن الفقر فى بر مصر قد اتسع إلى 32.5% فى عام 2017/18 بالمقارنة ب 27.8% فى 2015/16. سألنى كثيرون من أهل الإعلام والمعارف والأصدقاء، كيف ذلك؟ أليس المفروض أن يقل نطاق الفقر بين السكان مع تحسن الوضع الإقتصادى فى البلاد؟ كان ردى أنه ليس بالضرورة. و ذكَّرْتُهم بالمثل القائل "ليس كل ما يلمع ذهبا". فكما سنوضح هنا، من الممكن أن يؤدى التحسن الإقتصادى إلى تراجع الفقر أو إلى تفاقم الفقر. الأمر يتوقف. و لتفسير هذا اللغز الذى قد يوحى بتضارب الأرقام، نعود إلى أصل المسألة. فالتغير فى نسبة الفقر فى أى بلد يتوقف على عاملين هما تغير معدل نمو الدخل و تغير درجة العدالة فى توزيع الدخل. على وجه التحديد: كلما ارتفع معدل نمو الدخل انخفضت نسبة الفقر، و كلما انخفضت درجة العدالة «أى زادت درجة اللامساواة» فى التوزيع ارتفعت نسبة الفقر. وبالتالى لا بد أنه خلال الفترة 2015-2019 زادت درجة اللامساواة فى توزيع الدخل بحيث أضاعت الأثر الإيجابى لارتفاع معدل نمو الدخل. فكانت المحصلة هى ما كشفت عنه الأرقام من ارتفاع كبير فى نسبة الفقر رغم ارتفاع معدل النمو الاقتصادى. و قد يكون النمو السكانى السريع من أسباب ارتفاع معدل الفقر، ولكنه سبب من الدرجة الثانية. فمعدل نمو السكان فى مصر 2.3% سنويا فى حين بلغ معدل نمو الإقتصاد 5.6%، مما يعنى أن متوسط دخل الفرد قد زاد. المشكلة أن زيادة الدخل تركزت فى فئات الدخل المرتفع مما يعنى ازدياد درجة اللامساواة فى توزيع الدخل. للأسف، لا توجد بيانات موثوق بها عن توزيع الدخل فى مصر، خصوصا فى السنولت الأخيرة. و لكن هناك دلائل عديدة على تزايد اللامساواة وتزايد الفجوة بين الأغنياء و الفقراء و تآكل الطبقة المتوسطة. «فمثلا حفل جنيفر لوبيز فى العلمين كان كامل العدد رغم وصول سعر بعض التذاكر إلى 4500 جنيه»!. و أرى أن أسباب زيادة اللامساواة فى توزيع الدخل خلال الفترة المذكورة ترجع أساسا إلى طبيعة السياسات التى طُبِّقت كجزء من «برنامج الإصلاح الإقتصادى» مع صندوق النقد الدولى خلال الفترة 2016-2019. فالسياسة النقدية أخذت بتعويم الجنيه فأطلقت نيران التضخم على خلق الله، ثم رفعت سعر الفائدة لاحتواء التضخم فأضرت بالإنتاج وبفرص العمل. والسياسة الضريبية خففت عن كاهل الأجانب و الأغنياء وأثقلت كاهل متوسطى الحال ومحدودى الدخل. وسياسة الاستثمار ركزت على العقارات والتطاول فى البنيان. و سياسة التجارة فتحت الباب على مصراعيه للاستيراد. «ألا يذكرنا هذا بأغنية آه ياهوا للسيندريللا "عايزاه بحار تجارى و لا سمسار عقارى؟»، و سياسة الأسعار اطلقت العنان للتجار. كما أن الحكومة رفعت بشكل كبير الرسوم على الخدمات التى تقدم للمواطنين، كالعلاج و استخراج الوثائق الرسمية. و قد اعترف رئيس الجمهورية نفسه بالضغوط التى تعرض لها المصريون، فشكرهم على طول صبرهم و قوة تحملهم. و اطلق برنامج "حياة كريمة"، الذى يوفر مظلة حماية إجتماعية بقيمة 327.7 مليار جنيه فى موازنة 2019/20. و لكن هل هذا هو الحل؟ بالقطع لا. و بدلا من إصرار الحكومة على سياسات تخلق الفقر بإدعاء الإصلاح ثم تمد الحماية الاجتماعية لمن أفقرتهم، لا بد من تغيير جذرى فى السياسات. و قد تحدثت فى هذا الاتجاه حتى بُحَّ صوتى، و اقترحت برنامجا من 10 نقاط فى عام 2016 كبديل للبرنامج الذى وقعته الحكومة وقتها مع الصندوق. و جوهر هذا البرنامج هو: تبنى نظام لسعر صرف الجنيه أكثر ملاءمة من التعويم، و التركيز على قطاعات الإنتاج الحقيقى «وبالذات الزراعة و الصناعة» لخلق فرص عمل مستدامة، و اعتماد العدالة الاجتماعية كأحد ركائز السياسات العامة فى كل المجالات، و تحصيل حق المجتمع فى الأرباح على معاملات البورصة و فى الأرباح الرأسمالية كما يحدث فى الدول الرأسمالية المتقدمة مثل أمريكا و دول أوربا. كما طالبت بالتخلى عن مقولة الاقتصاد الحر والأخذ باقتصاد السوق و لكن بضوابط. و كل عام و الجميع بخير بمناسبة عيد الأضحى حكمة اليوم: «أبو الطيب المتنبى» أُعِيذُها نظراتٍ منك فاحصةً … أن تحسَبَ الشحم فيمن شحمُه وَرَمُ وما إنتفاعُ أخى الدنيا بِناظِرِهِ …إذا إستَوَت عنده الأنوارُ والظُلَمُ