كنت قد التقيت الشاعر والمفكر " ليوبولد سيدار سنجور" فى مدينة أصيلة فى المغرب أثناء مهرجانها السنوي عام 1986، وكان "سنجور" قد ترك حكم السنغال بعد أن ظل رئيساً لمدة طويلة، ووجدت أنني محظوظة لأجرى معه حواراً شاملاً، وتشاركنا أنا وصديقتي التونسية "رشيدة النيفر" التي أصبحت فيما بعد نقيبة للصحفيين فى بلادها فى إجراء حوار شامل ومطول مع "سنجور"، ولكن ضاعت حقيبتي فى طريق العودة من "أصيلة" وضاع معها الحوار، ولكن بقى فى ذاكرتي حتى هذه اللحظة رد "سنجور" على سؤالي حول الصهيونية، إذ قال إن الصهيونية ما هي إلا مرض سوف تشفى منه الإنسانية إن عاجلاً أو آجلاً. وكان المؤتمر العالمي للشباب الذي انعقد فى برلين قبل ذلك بعشر سنوات قد احتقل بسقوط الإمبريالية الأمريكية فى "فيتنام"، معلناً أن المعركة التالية ضد الامبريالية سوف تكون إسقاط الصهيونية وتحرير فلسطين، وكانت الأممالمتحدة قد أصدرت إعلاناً يساوي بين الصهيونية والعنصرية، وكان تحرير فلسطين يبدو لنا قريبا جداً فى ظل هذا المد التحرري العالمي الكاسح. ولكن جاءت الرياح بعد ذلك بما لا تشتهي السفن كما يقال، إذ سقط الاتحاد السوفيتي، وتبعته مجموعة الدول الاشتراكية، وتراجعت حركة التحرر العالمي، وشهدت هزائم متتالية، وأخذ اليمين الأوروبي والأمريكي يقاتل بشراسة لإٍسقاط دولة الرفاه الإجتماعي، والضغط على المنتجين والكادحين لاسترجاع ماكانوا قد حصلوا عليه من الحقوق بعد نضال طويل ضد شراهة الرأسمالية. وهكذا انكسر ظهر الثلاثي العالمي للتحرر، وركبت إسرائيل والصهيونية ظهر هذا الانكسار لتتمدد، وتلتهم المزيد من الأراضي العربية وتضرب عرض الحائط بكل القرارات الدولية الخاصة بفلسطين بعد أن تفرق شمل العرب إثر اتفاقيات كامب دافيد والصلح المنفرد بين مصر وإسرائيل. وفى ظل إنكار حكومة إسرائيل ما كان العالم قد توافق عليه أي حل الدولتين والقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين وهو الحل الذي قبلت به منظمة التحرير رغم أنه ينهض على تنازل عربي وفلسطيني هائل، وانطلقت المبادرة العربية التي قامت على مبدأ بسيط للغاية رغم أنه مؤلم أيضاً للغاية، أي انسحاب إسرائيل من كل الأراضي العربية التي احتلتها بعد هزيمة 1967 مقابل التطبيع الشامل معها عربيا. ورغم "فتونة" "نتنياهو" ومباهاته بدعم "ترمب" له ولأحلامه التوسعية فإن إسرائيل تعيش فى ظله أزمة عميقة، أزمة دفعت ما يسمى باليسار الإسرائيلي الصهيوني للبحث عن مخرج، وأخذت بعض الحلول التي جرى اعتبارها "يوتوبيا" تبرز على سطح الحياة السياسية مجددا، فيطرح حزب "ميرتس" فكرة التحول إلى حزب يهودي عربي، وهو ما يقربه من مشروع قديم كان "ياسر عرفات" هو أول من طرحه، وهو مشروع الدولة الواحدة ثنائية القومية، وكان قائد فلسطيني كبير قد حدثني قبل سنوات عن مثل هذا المشروع، وقال إنه يصيب إسرائيل بالفزع لأنها تعرف مسبقاً أنها مهزومة فى السباق الديموجرافي، إذ أن عدد السكان الفلسطينيين يتزايد بمتوالية هندسية، ولا يتدفق مهاجرون يهود جدد على إسرائيل. ويدعو إثنان من قادة حزب "ميرتس" أحدهما عربي والآخر إسرائيلي إلى خوض الانتخابات القادمة، فى سبتمبر معاً بعد فشل "نتنياهو" فى بناء ائتلاف يشكل به حكومة، ويدعو القائدان العربي والإسرائيلي إلى تشكيل حزب قوي يهودي عربي يعمل بشراكة وتآخ بين الشعبين، ويمهد للسلام الحقيقي بينهما، وقال عيساوي فريح القائد العربي إن العرب منحو حزب "ميرتس" أكثر من ثلث الأصوات التي حصل عليها فى الانتخابات الأخيرة، وأضاف إن هذه فرصة ذهبية للرد عليهم بالاحترام اللازم، إن الشراكة العربية اليهودية هي الأمل. وهكذا نجد أنفسنا أمام فرصة أولية تمهد الأرض للدولة الواحدة ثنائية القومية، وهو ما حدث فى جنوب إفريقيا بعد سقوط حكم الفصل العنصري، وهو السقوط الذي يجدد آمال العرب فى الشفاء من مرض الصهيونية على حد تعبير "سنجور" فالصهيونية ليست إلا شكلا من أشكال العنصرية لابد أنه إلى زوال، مع الوضع فى الاعتبار أن المد اليميني العالمي لن يدوم. ولنتذكر فى هذا الصدد حلم المفكر الراحل "إدوارد سعيد" حين بادر بالتعاون مع الموسيقار والمايسترو الإسرائيلي "بارنباوم" بإنشاء فرقة موسيقية فلسطينية إسرائيلية، على أمل أن يفتح الفن الجميل طريقاً للأمل، إذ يطهر النفوس من ضغائن العنصرية، ويجعل الإسرائيليين ينظرون إلى الفلسطينيين كشركاء فى الإنسانية أولا، ويخلص اليهود عامة من عقدة التفوق العرقي التي استعاروها من النازيين بعد أن كانوا قد صنعوا لأنفسهم خرافة شعب الله المختار، واستثمروا هذه الخرافة وهم ينظرون للعدوان على الشعب الفلسطيني وطرده من وطنه، وكان قادتهم قد ابتكروا فكرة لا أصل لها على الأرض تقول إن شعباً بلا أرض أي اليهود هم أحق بهذه الأرض بلا شعب كما وصفوا فلسطين لدى إحتلالهم لها. ويسجل الزميل الصحفى الفلسطيني "نظير مجلي" فى متابعة له بجريدة الشرق الأوسط لمؤتمر انعقد الأسبوع الماضي فى "جامعة تل أبيب" وضم قيادات يهودية فى إسرائيل والولاياتالمتحدةالأمريكية للتباحث فى عدة مبادرات تحسن العلاقات بين الطرفين، مؤكدا أن هناك مشكلات تحيط بهذه العلاقات، وأجرت إحدى المنظمات اليهودية اليمينية فى أمريكا استطلاع رأي معمق قبل انعقاد المؤتمر جرى عرض نتائجه فى المؤتمر وتبين أن 25% من الأمريكيين اليهود لا يعتبرون أن وجود إسرائيل هو عنصر ضروري لاستمرار بقاء الشعب اليهودي، فيما قال 20 % من اليهود فى إسرائيل إن اليهود المقيمين فى دول أخرى فى العالم ليسوا عنصرا حيويا لبقاء الشعب اليهودي، وقد اخترت هاتين الإحصائيتين فقط من بين أرقام أخرى توصل إليها الاستطلاع لأنها تبين إن إحدى الأفكار المؤسسة للمشروع الصهيوني أي الاتيان بجميع يهود العالم إلى أرض المعاد كما يقولون قد سقطت تماما، وتعزيزا لاستنتاجي هذا نجد أن 59% من اليهود فى الولاياتالمتحدةالأمريكية لم يزوروا إسرائيل أبداً. ويشكل هذا الواقع الجديد عناصر للأمل، أما كيف سوف يستثمرها العرب للخلاص من العنصرية الصهيونية فهذا موضوع أخر.