ظل الشعب الفيتنامي على مدى ألفى عام يحارب الغزاة وكان آخرهم الفرنسيين والأمريكيين. فقد بدأت سلسلة الغزوات الفرنسية من عام 1859، وفى 1885 أصبحت فيتنام جزءاً من مستعمرة «الهند الصينية الفرنسية» واستطاع الشعب الفيتنامي أن يطرد المستعمرين الفرنسيين ويلحق بهم هزيمة نكراء فى موقعة «ديان بيان فو» عام 1954. ولكن الأمريكيين، الذين كانوا يساندون الغزاة الفرنسيين، وجدوا أن تقسيم فيتنام (إلى شمال وجنوب) لا يكفي، وإنما قرروا أن يحلوا محل الفرنسيين. وبدأوا حربهم القذرة ضد فيتنام منذ عام 1965 وانتهت بهزيمة ساحقة ومذلة ومخجلة للأمريكيين فى منتصف السبعينيات. ويحق لمصر أن تفخر وتعتز بأنها وقفت إلى جانب الشعب الفيتنامي فى نضاله من أجل التحرر الوطني وفى كل معاركه. وشهدت القاهرة افتتاح سفارة لفيتنام عام 1963 ومكتب لجبهة التحرر الوطني الفيتنامية. ولذلك عندما قام كاتب هذه السطور برحلة إلى فيتنام أثناء الحرب ضد المعتدين الأمريكيين والتقى مع بطل النصر على الفرنسيين فى «ديان بيان فو»، وهو نفسه القائد العسكري الذي هزم الأمريكيين وطردهم من الأراضي الفيتنامية. «الجنرال نوين جياب» وقع اختيار هذا القائد الذي قهر الفرنسيين والأمريكيين على كاتب هذه السطور لكي يلتقى به.. دون مجموعة الصحفيين الأجانب الآخرين الذين طلبوا مقابلته. قال لي : «يكفى أنك قادم من بلد فى غمار مواجهة ضد الاستعمار العالمي». كان ذلك فى نهاية الستينيات؟ وخلال الرحلة داخل فيتنام، شاهدت بعيني رأسي كيف جعل الطيران الأمريكي من الأرض الفيتنامية ( مدنا وقرى ومزارع) ساحة من الخرائب والأطلال، لم يترك الأمريكيون مدرسة أو مستشفى أو دارًا للمسنين إلا وقاموا بتدميرها. وهنا نتوقف أمام المعجزة الفيتنامية. خلال أقل من 25 سنة، أصبحت فيتنام دولة جديدة بل الأسرع من غيرها فى تحقيق قفزات على طريق التقدم الاقتصادي والصناعي. هذه الدولة التي استهدفت فرنسا والولايات المتحدة محوها من الوجود.. وقفت مرة أخرى على قدميها لتصبح أحد النمور الاقتصادية الآسيوية التي تقتحم منتجاتها عالية الجودة أسواق دول صناعية كبرى مثل: اليابان والولايات المتحدة والصين وأوربا. لقد حدث هذا التحول على نحو لم تشهده أي دولة من دول النمور الآسيوية الأخرى. أصبحت فيتنام واحدة من أسرع دول العالم فى معدلات النمو الاقتصادي، وبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي نسبة 38ر7 فى الربع الأول من هذا العام (2018) بالمقارنة بالربع السابق من العام. ووصل معدل النمو فى الناتج المحلي الإجمالي إلى 46ر8% فى الربع الأول من العام الماضي، وهو أعلى معدل للنمو. ورغم أن المنتجات الرئيسية فى فيتنام هي: الأرز، والمطاط، والبترول، والقهوة، والشاي، وأنواع الأسماك، والجوز والبندق، والفلفل الأسود،.. فإن ما يلفت النظر أن تكنولوجيا المعلومات فى مجال التصنيع وصناعات التكنولوجيا المتقدمة تشكل جزءًا مهمًا ينمو بسرعة فى الاقتصاد الفيتنامي، وبالتالي أصبحت الصناعات التكنولوجية تمثل نسبة كبيرة من مجمل الصادرات. والاحتياطي النقدي لدى فيتنام ارتفع إلى 63 مليار دولار فى الشهور الأربعة الأولى من هذا العام بما يعادل أربعة أشهر تقريبًا من الواردات. أما صادرات فيتنام فى النصف الأول من هذا العام، فقد زادت بنسبة 16%، بالمقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، ووصلت قيمتها إلى 93ر113 مليار دولار. وخلال العقد الأخير، استطاعت فيتنام إعداد أجيال جديدة من الشباب بعد إصلاح وتطوير نظام التعليم بصورة راقية، بحيث أصبحت قادرة على جذب استثمارات أجنبية فى عمليات تصنيع تحتاج إلى عمالة كثيفة، وهكذا أصبح التعليم أحد أهم عناصر التقدم الاقتصادي بعد أن تم تخصيص نحو 7% من ميزانية البلاد للتعليم وتخريج أجيال شابة على أعلى مستوى من التدريب. وفى ظل اقتصاد السوق ذي التوجه الاشتراكي Socialist – oriented market economy تعمل المؤسسات المملوكة للدولة كمؤسسات مستقلة وتوفر للدولة دخلا من خلال الضرائب، وتتنافس هذه المؤسسات مع بعضها ومع المؤسسات الخاضعة للملكية الخاصة. وتوجه الحكومة التنمية الاقتصادية عبر خطوط مشروعات السنوات الخمس، ولكنها لم تعد صاحبة القرار فيما يتعلق بنشاط المؤسسات الخاضعة للملكية الخاصة أو لملكية الدولة. ويتكون القطاع الاشتراكي من المؤسسات التابعة للدولة والمملوكة للتعاونيات بينما يتشكل القطاع الرأسمالي من المؤسسات الأجنبية والمحلية المملوكة للقطاع الخاص. ويطلق الحزب الشيوعي الحاكم كلمة الاشتراكي على سياسة وضع مصالح الشعب العامل فى المقدمة نظراً لأن الدولة توجه التنمية الوطنية نحو هدف تلبية الاحتياجات الإنسانية والقضاء على استغلال عمل المواطن على أيدي آخرين. كما أنه للحفاظ على الطابع الاشتراكي للتنمية الاقتصادية فى اقتصاد مختلط، فإن الطبقة العاملة يجب أن تمارس دورها المهيمن فى الدولة لضمان أن يبقى القطاع الاشتراكي هو المسيطر اقتصاديًّا مع توسع الانتاج. نحن إذن بإزاء اقتصاد عبارة عن مزيج من الملكية الخاصة والجماعية وملكية الدولة لوسائل الإنتاج. ويوصف الاقتصاد الفيتنامي بأنه اقتصاد سوق متعدد القطاعات، وهذا الاقتصاد نتاج الإصلاحات التي تعرف باسم « Doi Moi" أي اقتصادات جديدة والتي أدت إلى إحلال الاقتصاد المختلط محل الاقتصاد القائم على التخطيط المركزي. وقد تمت هذه الإصلاحات فى عام 1986 من خلال المؤتمر العام السادس للحزب الشيوعي الفيتنامي، وهي تتيح الملكية الخاصة للمشروعات الصغيرة، وتفتح المجال لدور أكبر لقوى السوق ورفع مستوى القوى الإنتاجية وتوفير قاعدة تقنية مادية تكون أساساً للاشتراكية وتساعد فيتنام على تحقيق تكامل مع الاقتصاد العالمي. نجاح التجربة الفيتنامية يكمن فى القدرة على تحرير الاقتصاد من القيود التي كانت تكبله وفى نفس الوقت الحفاظ على العدالة الاجتماعية. دعم العلاقات بين مصر وفيتنام لن يؤدي فقط إلى زيادة حجم التبادل التجاري وفرص التعاون المشترك فى مجالات الزراعة والصناعة والتبادل الثقافى والتعاون السياحي وزيادة حجم الاستثمارات المشتركة، وتنمية محور قناة السويس والتعاون العسكري ومكافحة الإرهاب وفى الدفاع والأمن.. وإنما ستكون له آثار عميقة وأصداء قوية من شأنها تقديم نموذج مشرق للعلاقات بين دولتين ساهمتا فى إنهاء الاستعمار القديم وسد الطريق أمام الاستعمار الجديد وحماية عالم متعدد الأقطاب. ولايفوتنا أن نشير إلى أن الرئيس الفيتنامي «تران دي كوانج» من أشد المعجبين بالحضارة المصرية العريقة، ويعرف مكانتها وقيمتها ووزنها وما تتميز به عن غيرها.. ومن ثم فإنه يعرف إمكانات المواطن المصري الذي سبق العالم فى صنع معجزات عديدة.. وقادر على أن يصنع المزيد منها كلما أتيحت له الفرصة.