لكل من لا يعرف أن ما قامت به دول العداون الثلاثي الأسبوع الماضي على سوريا وهي الإقليم الجنوبي للجمهورية العربية المتحدة ما هو إلا استكمالا لعدوانها على مصر الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة عام 1956. وكأننا العرب لم نتعلم من التجربة الأولى وصرنا بعد أن فقدنا ناصر 56 أكثر تخلفاً وتعلقاً بركاب هذه الدول بل بتنا فى أحضانها تماماً بدليل تجمع العرب يوم الاعتداء على سوريا وتفرقوا كما تجمعوا دون أن يخرج عنهم شجب أو إدانة. وإذا كان العدوان الثلاثي على سوريا هو ذات العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 فما أشبه الليلة بالبارحة الضارب هو الضارب والأهداف هي الأهداف لكن رد الفعل لم يكن هو ذاته. ولنعد إلى المؤامرة الثلاثية على مصر حينما قام عبد الناصر بأعظم إنجازاته بتأميم قناة السويس فى 26/7/1956 وجاء ضربة موجعة لهذه الدول استرداداً لحقوق مصر وسيادتها على هذا الممر العالمي فجن جنون إنجلترا وفرنسا ورتبا المؤامرة مع إسرائيل التي بدأت فى صباح يوم 29/10/1956 بهجوم بري متقدماً نحو القناة فأشتبكت القوات المسلحة المصرية معها لمنعها من التقدم وصاحب هذا الاعتداء إنذار من انجلترا وفرنسا إلى كل من مصر وإسرائيل بأن تتراجع كل منها عن قناة السويس لمسافة عشرة كيلو مترات تمهيداً لقدومها لاحتلال القناة. فى ذلك الصباح وكنت تلميذا بمدرسة كفر الشيخ الثانوية – وعمرى وقتها 17 سنة- دخلت المدرسة وفوجئت بالطلبة وهم وقوفاً بفناء المدرسة وأمامهم أحد الأساتذة يكاد يصرخ ويخطب بحماس شديد. مندداً بهذه المؤامرة الثلاثية وشارك الطلبة انفعال أستاذهم وأرادوا الخروج إلى شوارع المدينة إعلاناً عن غضبهم وتأييداً لعبدالناصر إلا أن ناظر المدرسة طلب منا التمهل لنرى ما سوف يحدث بعد هذا الهجوم الإسرائيلي وقتها يكون لكل حادث حديث وقبلنا على مضض أن ندخل الفصول. لكننا فوجئنا فى اليوم الثاني أول نوفمبر 56 بغارات إنجلترا وفرنسا على مدينة بورسعيد بالقنابل والصواريخ والقذائف الحارقة من الطائرات والبوارج الحربية فى محاولة لاحتلال المدينة فى الوقت الذي وقف فيه عبد الناصر على منبر الأزهر فى الثاني من نوفمبر 56 معلناً أننا سنقاتل ولن نستسلم وأن الشعب سيخوص الحرب جنباً إلى جنب مع قواته المسلحة من قرية إلى قرية ومن شارع إلى شارع سنقاتل ولن نسلم وأثناء ذلك قامت الطائرات الحربية البريطانية وقذفت الإذاعة المصرية فى أبي زعبل بالقنابل فأسكتتها. وأبت سوريا أن يسكت صوت مصر فانطلق من إذاعة دمشق يعلن هنا القاهرة. وفى صباح الثالث من نوفمبر 1956 دخلت المدرسة وتوجهت من فوري إلى ميكروفون الإذاعة وناديت بأعلي صوتي صارخاً فى زملائي أن أخرجوا إلى شوارع المدينة للتعبير عن غضبنا وتأييدا لعبد الناصر. فخرجنا جميعا ومعنا الزميلان الراحلان أسامة أنور عكاشة وإسماعيل عبدالحافظ الكاتب والمخرج الكبيران متجهين إلى محكمة كفر الشيخ المجاورة للمدرسة وحينما شاهدنا المحامون خرجوا معنا وعلى رأسهم النقيب الجليل المرحوم عمر المارية ( والد الدكتورة هانية زوجة الكاتب الكبير رجاء النقاش ) والمحامي الاشتراكي نائب رئيس حزب مصر الفتاة المرحوم جمال طولان والمحامون الشبان بدير عبد العال، ومحمد شراقي، وحسن الشاذلي، وفؤاد زيدان وما أن سرنا فى شوارع المدينة حتى التف حولنا جموع الشعب واتجهنا إلى قصر الثقافة بما كان يموج وقتها بالحركات السياسية والثقافية التي كان يقودها شباب ثورة 23 يوليو ثم اتجهنا إلى مقر المحافظة فنزل المحافظ ومعه كل العاملين بالمقر وطالبناه بالسلاح والتدريب تمهيداً للذهاب إلى بورسعيد للدفاع عنها وسرعان ما استجاب عبد الناصر وتحولت كل مدن مصر إلى ميادين للتدريب وارتدينا لأول مرة الملابس العسكرية وحمل كل منا سلاحاً وانتظمنا فى التدريب العسكري وتجهزنا انتظارا للسفر إلى بور سعيد. أما الأمة العربية كلها فقد شملت عواصمها ومدنها المظاهرات المنددة بهذا العدوان وشاركت الجامعة العربية بقطع علاقاتها مع انجلترا وفرنسا بل شاركت الدول العربية بقواتها المسلحة لصد العدوان على مصر فكانت سوريا والعراق والسودان والجزائر سباقة إلى المشاركة. وبفضل هذا الثقل العربي تحت قيادة عبدالناصر وتأييداً لشعوب دول عدم الانحياز والقوى المحبة للسلام وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي والصين انتصرت مصر وسقط إيدن وجي موليه رئيسا وزراء انجلترا وفرنسا. أما العدوان الثلاثي على سوريا فقد انفردت جريدة الاهالي حين استشعرت أن الضربة الثلاثية قادمة لا محالة فصدر عنوانها الرئيسي فى العدد الصادر فى 11 ابريل قبل الاعتداء «بلا.. لضرب سوريا أكذوبة الأسلحة الكيميائية لمنع الجيش السوري من الحاق الهزيمة النهائية بالمنظمات الإرهابية «. وفى ذات العدد كتبت الأستاذة أمينة النقاش غاضبة تطالب القمة العربية قبل انعقادها فى 15/4 أن ترفض بقوة وبحزم أي ضربة عسكرية توجه إلى سوريا. وفى العدد الماضي الصادر 18 ابريل أعلن حزب التجمع عن دوره النضالي والوطني فإنفراد ببيان نشره على الصفحة الأولى من الأهالي وهو «التجمع يدين العدوان ويطالب بعودة سوريا للجامعة العربية». أما قرار ترامب باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس فى 15 مايو القادم ذكرى قيام إسرائيل وما قاله إنه ضرب سوريا على قدر ما قبض،ولا مانع عنده من إعادة الضرب لو قبض أكثر أي أن الضرب كان بتحريض عربي ومن قواعد على أرض عربية ومعنى هذا كله أن القمة العربية لم تصبح قمة عربية كما كانت عام 1956.. وكما أعلن نزار قباني عن وفاة العرب ولا صحوة لهم إلا إذا عاد إليهم عبد الناصر من جديد فمنذ رحيل الزعيم تغيرت المعادلة وأصبحت «كثير من المال قليل من الكرامة». محمد الشامى