استعادة جمال حمدان عن دار الهلال صدرت طبعة جديدة من كتاب "شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان" للمفكر الراحل د. جمال حمدان، ويعد الكتاب علامة بارزة فى تاريخنا المعاصر، منذ صدر فى طبعته الأولى فى يونيو 1967. وقد جمع الكتاب معارف واسعة ونظرة ثاقبة حول الماضى والمستقبل، عبر رؤية وفلسفة عميقة تجمع ما بين أصالة التاريخ ومرونة الجغرافيا. وإذا كان هذا الكتاب هو درة الكتب الجغرافية والفكرية التى رصدت عبقرية المكان والزمان، فإن ذلك يرجع لعدة أسباب، منها اعتماده على معظم الوثائق التى كتبت عن مصر، كذلك – وهو الأهم – أن د. جمال حمدان كتبه بحب وعشق لمصر. ولذلك يقول عنها "إنها تجمع بين أطراف متعددة غنية وجوانب كثيرة خصبة، بين أبعاد وآفاق واسعة، بصورة تؤكد فيها ملكة الحد الأوسط، وتجعلها "سيدة الحلول الوسطي"، تجعلها أمة وسطا بكل معنى الكلمة، بكل معنى الوسط الذهبي، ولكن ليست أمة نصفا! وسط فى الموقع والدور الحضارى والتاريخي، فى الموارد والطاقة، فى السياسة والحرب، فى النظرة والتفكير.. إلخ. ولعل فى هذه الموهبة الطبيعية سر بقائها وحيويتها على العصور ورغمها. إن مصر جغرافيا وتاريخيا تطبيق عملى لمعادلة "هيجل" تجمع بين "التقرير" و"النقيض" فى "تركيب" متزن أصيل. ويرى د. حمدان أن مصر "فلتة جغرافية" لا تتكرر فى أى ركن من أركان العالم، فالمكان، الجغرافيا – كالتاريخ – لا يعيد نفسه أو تعيد نفسها تلك هى حقيقة عبقريتها الإقليمية. فى الفصل الأول والمعنون ب "التجانس والوحدة" يؤكد د. حمدان أن التجانس الطبيعى صفة جوهرية فى البيئة المصرية، فالوادى كله وحدة فيضية، أما التفرقة التقليدية بين الدلتا والصعيد فاختلاف فى الشكل والمساحة قبل أن يكون فى التركيب والنسيج. كل الفارق أن الصعيد شق غائر ضيق، بينما الدلتا مروحة مبسوطة مسطحة. ويضيف "أما مناخيا فالامتداد عبر نحو 10 درجات عرضية هو كالقطاع الطولى يخلق بعض فروق محلية بالضرورة، ولكنها بالضرورة أيضا فروق "لاتبين إلابىن أقصى الشمال وأقصى الجنوب". وهذا التجانس الأساسى فى المناخ ينعكس فى الزراعة بطبيعة الحال، فمصر كلها إقليم زراعى واحد. تجانس بشري أما عن "التجانس البشري" فيؤكد د. حمدان أنه منذ فجر التاريخ يبرز الشعب المصرى كوحدة جنسية واحدة متجانسة بقوة فى الصفات والملامح الجسيمة، وقد ظل محافظا على هذا التجانس حتى اليوم، والواقع أن من أطرف الحقائق الأنثروبولوجية بقاء أو ثبات النمط المصرى عبر العصور، فلم يكد يتحرك منذ آلاف السنين. مناخ معتدل وإذا كان للمناخ أثر واضح فى حياة الشعوب فإن المناخ فى مصر لعب دورا مهما فى البيئة المصرية، سواء فى الزراعة أو فى مجال النقل والمواصلات، وهذا ما أشار إليه حمدان بقوله: "وعامل النقل والمواصلات – كالهيدرولوجيا – عامل توحيد وظيفى محقق فى بيئة مصر النيلية، ففى تناسق نادر، يتضافر النهر مع الرياح فى ربط أجزائها ربطا محكما: النهر ينحدر من الجنوب انحدارا تدريجيا لطيفا (1: 10.000 – 14.000) آخذا بيد الملاحة الهابطة فى يسر وسهولة. والواقع أن رقعة ما من مصر لا تبعد عن النيل أو فروعه أكثر من كيلومترات قليلة، بل فى الجنوب يتحول الصعيد برمته إلى شارع هائل يطل على النيل مباشرة، ويتحول النهر إلى "طريق متحرك" كما يعبر جوردون تشايلد. هذا التجانس الذى يشير إليه د. حمدان – فى كتابه – كان له أبعاده السياسية أيضا، فعلى حد تعبيره فإن الواقع أن مصر لم تسبق العالم كدولة سياسية فقط، وإنما هى أطول دولة حافظت على وحدتها القومية عبر التاريخ، فلم يحدث خلال ستة آلاف سنة أن انفرط عقد وحدتها وتدهورت إلى انفصاليات إقليمية إلا فى حالات نادرة شاذة للغاية أغلبها مفروض من قوى أجنبية دخيلة كغزو الهكسوس حين انفردوا بالدلتا وظل الصعيد معقل الدولة الوطنية المستقلة وكعهد الانحلال والإقطاع فى الدولة الوسطي، وأخيرا كعهد الإقطاع المملوكي. هبة النيل وعن أهمية النيل كشريان حياة لمصر والمصريين يؤكد جمال حمدان ذلك قائلا: كان "هيرودوت" جغرافيا قبل أن يكون مؤرخا حين قال إن مصر هبة النيل، ويمكن لجغرافى اليوم أن يضيف: هبة النيل الأزرق، ذلك أن 66% من مياه مصر تستمد فى المتوسط من هذا الرافد وحده. والحقيقة الأولى فى الوجود المصرى هى أن مصر هى النيل، فبدونه لا كيان لها ليس فقط من حيث مائه، وإنما أيضا من حيث تربته. إن النيل لا جدال "أبومصر" منه استمدت جسمها ودمها، أو طميها وماءها.