قلق داخل الاتحاد الأوروبي من احتمال عودة اليمين إلي الحكم في لندن خسر المحافظون البريطانيون انتخابات عام 1997 ، بسبب موقفهم المتعصب والمتشدد من مسيرة الاتحاد الأوروبي ، فقد تكون خلال سنوات حكم رئيسة الوزراء الأسبق مارجريت تاتشر ، تيار انعزالي يوجه اتهامات لمسيرة الاتحاد بعرقلة التطور الديمقراطي والسعي لاقامة دولة مركزية شديدة الهيمنة وفقاً لأنظمة شمولية ثبت فشلها . كانت تاتشر ذاتها تعزز المخاوف من مسيرة الاتحاد ، وترفض ما تدعيه من خطوات اندماجية ، وتدخلت كثيراً للحفاظ علي بلدها خارج خطوات التكامل السياسي ، وأيدت فقط التنسيق الاقتصادي وتوسيع حركة التبادل التجاري . تصدت المرأة الحديدية للاتجاه الفيدرالي ، واعتبرته خطراً علي برلمان بلادها وتاريخها الطويل من الاستقلال السياسي ، بعيداً عن مناطق الاستقطاب الأوروبي الحاد . وقد عززت خلال سنوات حكمها العلاقات الخاصة مع الولاياتالمتحدة ونددت بشدة بالهجوم الأوروبي علي سياسات واشنطن ، والتي كانت بارزة في الحقبة التي قادها تشارل ديجول الرئيس الفرنسي الأسبق . المصالح المرتبطة اعتبرت تاتشر أن زعماء فرنسا خلال فترة تحركها السياسي ، يستندون علي أفكار ديجول وأنهم يسعون لبناء أوروبا موحدة ومركزية علي عداء مع الولاياتالمتحدةالأمريكية ، ورفض ما يسميه اليسار الفرنسي هيمنة واشنطن وتقليصها للهوية الأوروبية والمصالح المرتبطة بها . بلغت المرأة الحديدية في أيامها الأخيرة بالسلطة مرحلة شديدة من التوتر مع الاتحاد الأوروبي ، وكانت رافضة لكل شئ يأتي من بروكسل عاصمة هذا التجمع الأوروبي الموحد ، غير أن تطرفها أثار ردود فعل قوية داخل بريطانيا ذاتها ، لأن العزلة تضر بالمصالح الاقتصادية والدور السياسي الذي تلعبه لندن ، وانها اذا تراجعت فان فرنسا ستقفز مع ألمانيا علي حساب مصالح بريطانية معروفة . وقد أدي عزل هذا التيار ، إلي عودة العقلانية للبناء البريطاني ، الذي قاده بعد ذلك توني بلير الزعيم العمالي باقترابه مع الاتحاد الأوروبي وتوقيعه الاتفاقات المختلفة ، لكنه في الوقت نفسه لم يدفع بلاده نحو دائرة «اليورو» العملة الموحدة . وحافظ علي استقلال «الاسترليني» ومع الأزمة الأخيرة للعملة الموحدة نتيجة العواصف اليونانية ، التي هبت علي النادي المالي لدول الاتحاد ، تبدو بريطانيا بعيدة عن تأثير هذا التوتر الراهن ، وان كانت عملتها نفسها تتعرض لانهاك اقتصادي ، نتيجة الأزمة المالية والاقتصادية التي تتعامل معها شكومة جوردون براون الحالية . بريطانيا الآن أمام انتخابات عامة ، ومن المحتمل أن تكون في بداية شهر مايو المقبل ، لذلك أوروبا عبر اتحادها مشغولة بهذه الأوضاع ومراقبة التطورات التي تجري علي أرض الجزيرة البريطانية ، خصوصاً مع احتمالات قفز حزب المحافظين المعارض وعودته للحكم ، واحتمال استرجاع فترة التناقض الحاد بين لندنوبروكسل مرة أخري ، كما حدث في عهد تاتشر . والبارونة آشتون الحقيقة أن ديفيد كاميرون زعيم حزب المحافظين يتحرك بحذر علي جبهة الاتحاد الأوروبي ، فهو لا يريد اثارة المشاكل ولا احياء الجبهة الانعزالية داخل حزبه ، التي طرحت من قبل فكرة الخروج من الاتحاد بالكامل للحفاظ علي الاستقلال وحماية العملة البريطانية «الاسترليني» من الذوبان والاختفاء . كاميرون يعمل علي التناغم مع الاتحاد الأوروبي ، علي الرغم من دعوته لاستفتاء عام بشأن اتفاقية لشبونة ، التي وقعتها حكومة العمال الحالية وترتب علي هذه الخطوة تحريك العشرات من الملفات ومنها تشكيل مفوضية تدير السياسة الخارجية ، والتي تتولي زمامها الآن البارونة آشتون ، التي بدأت خطوات لتعزيز موقعها بعد هجوم عليها من داخل بريطانيا ذاتها ومن الحزب الذي تنتمي اليه وهو : العمال الحاكم في الوقت الراهن . لدي الحزب المحافظ أسئلة عديدة بشأن مسيرة الاتحاد الأوروبي وعدم الاندفاع نحو خطوات اندماجية جديدة والابقاء علي سيادة الدول المنضمة الي هذا الاطار ، وعدم الضغط عليها خصوصاً بشأن موضوع الدفاع كما هو مقترح في الوقت الراهن . نجاح حزب المحافظين في بريطانيا اذا حدث ، سيثير العديد من المشاكل مع الاتحاد الأوروبي للتأكد علي تماسكه الداخلي ، وقمع أي تمرد محتمل ضد القيادة ، اذا تعرضت لضغوط بروكسل في العديد من الملفات وعلي رأسها بالطبع موضوع الدفاع . من المؤكد أن الحزب المحافظ تغير كثيراً منذ هزيمة عام 1997 ، وعدم تمكنه من العودة الي السلطة حتي الآن ، وقد راجع الكثير من سياسات سابقة وأدخل عليها بعض التعديلات ، ومن ذلك قبول وزير المالية الأسبق كينيث كلارك في صفوفه الأمامية ، والذي ظل شبه مطرود من حكومة الظل بسبب أفكاره ومواقفه المؤيدة لمسيرة الاتحاد الأوروبي . نجح التيار اليميني المتزمت في اقصاء كلارك الذي كان يحلم بقيادة المحافظين ، وهو سياسي كفء علي درجة عالية من المهارة والقبول لدي الجماهير المحافظة ، ونتيجة تعاطفه مع الاتحاد الأوروبي ظل مبعداً حتي استطاع كاميرون دعوته لدخول حكومة الظل وضمان وجوده ضمن فريقه ، الذي يعكس التنوع في المواقف والآراء ولا ينحاز لوجهة نظر محددة . الحضور الأوروبي استطاع زعيم المحافظين تجديد المواقف السياسية وتحديث الآراء المختلفة ، التي كانت من نتائج انتشارها عزلة المحافظين عن الواقع وعدم حماس قطاعات من المجتمع لهم ، اذ من الصعب الآن تغافل التطور الكبير في الحضور الأوروبي في الحياة البريطانية ، لقد تغيرت لندن نتيجة تأثيرات عبرت من القارة الي الجزر التي كانت منعزلة ولم تعد كذلك الآن ، بسبب خط السكك الحديدية الذي يربطها بباريس وبروكسل ، بالاضافة الي اندماج الحياة الاجتماعية وافرازها لحالة النمو الأوروبي وانحسار فكرة العداء والحروب التي سيطرت علي القارة ووصلت الي أعلي مراحلها خلال الحرب العالمية الثانية . أوروبا تفرز الواقع الجديد علي سطح الحياة البريطانية ، ومن العبث تجاهل هذا التطور المذهل ، وعلي السياسيين التكيف والخروج من شرنقة العزلة الي التفاعل مع واقع جديد يفرض نفسه . وعندما زار الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لندن اهتم هذه المرة باللقاء مع زعيم المعارضة المحافظة ديفيد كاميرون للاستماع الي وجهات نظره ومواقف حزبه ، خصوصاً في ظل توقعات بأن المحافظين قادمون الي السلطة في بريطانيا . التقي ساركوزي رئيس الوزراء جوردون براون ، لكنه كان أكثر اهتماماً بالحديث مع زعيم المعارضة وفتح كل الملفات لمعرفة موقف بريطانيا المحافظة ، وهل سيكون المستقبل اذا وصلوا الي السلطة في حالة اضطراب كما حدث في عهد تاتشر تجاه الاتحاد الأوروبي ؟ ، أم أن الظروف تغيرت ومياه جديدة تدفقت في النهر السياسي تزيل مخاوف زعماء الاتحاد الأوروبي اذا قفز كاميرون الي السلطة واختفي «براون» .