أمتطي البحر ليقبض بيديه علي حلمه، لكن الريح عاندته، فظل يصارع أمواجه حتي وصل إلي شاطئه، تعلم الغوص في الأماكن الخطرة ونجح في اجتياز الصعاب، متحملا مغامرة البدء. كان الدأب والإلحاح مفتاح شخصيته، لم يرتكن للظروف المعاكسة ولم يرضخ للإغراءات، بل كان يملك مقومات المقاتل، أتقن الايطالية والألمانية من أجل السينما، وسافر إلي أوروبا ليتعلم ويستزاد بعلم يدعمه في مشواره الذي اختاره منذ نعومة أظفاره، في كل حكاية من قصص الفنانين الأوائل يظهر اسمه بوضوح، ليس كشاهد عيان لبداياتهم وولادة السينما، ولكن كمؤسس وداعم ومعلم، هو واحد ممن قامت السينما علي سواعدهم، وتكشف سيرته المتفردة الكثير من إسهاماته إنه محمد كريم الأستاذ الأول في السينما. يستغل محمد كريم وجود شركة ايطالية بالإسكندرية يمولها بنك دي روما ويرسل لها طالبا العمل في الأفلام التي تنوي تصويرها، وتقف اللغة عقبة، لكنه يقرر تعلم الايطالية وبعد شهور قليلة يجتاز العقبة، ويرسل مرة أخري وتستدعيه الشركة، ليقتنص فرصة تمثيل دورين قصيرين في فيلمي (شرف البدوي، والأزهار الميتة) عام 1918 ويسجل محمد كريم اسمه كأول ممثل مصري يظهر في شريط سينمائي. تضطر الشركة الايطالية لتصفية أعمالها بعد خسائر مالية متلاحقة، فيكتب مقالات عن السينما في الصحف المصرية ويترجم اخباراً من الصحف العالمية بل ويراسل الصحافة الاوربية، لكن ذلك لم يشبعه فيقرر السفر إلي ايطاليا في مارس1920 ومنها إلي ألمانيا ويلتحق باستوديو “اوفا” بقسم المونتاج ، بعد فترة وجيزة يصبح أحد مساعدي المخرج الألماني الكبير “فريتز لانج” الذي يتعلم علي يديه كل فنون السينما، تمر سبع سنوات من العمل المتواصل يقرر العودة إلي القاهرة 1926محملا بأحلام كبيرة . بعد العودة يلجأ لصديق الطفولة يوسف وهبي، ويحاول اقناعه بالعمل في السينما، لكن الأخير يخشي علي النجاح الذي حققه بالمسرح، فيقرر اللجوء إلي شركة مصر للتمثيل والسينما التي يملكها طلعت حرب وتعهد إليه بتصوير فيلم عن حديقة الحيوان دون أجر، مع امداده بجميع المعدات التي يحتاجها ، ويلقي الفيلم القبول ويثني الحضورعلي موهبته، ويكافئه طلعت حرب بصرف راتب ثلاثة شهور بواقع 12 جنيها شهريا، وتعيينه مخرجا بالشركة. بدأ “كريم” في تحضير فيلمه الأول ويختار رواية «زينب» للدكتور محمد حسين هيكل، وهي أول رواية قدمت بالسينما، وكان عليه أن يبحث عن جهة مصرية لتمول الفيلم، بعدما فشل في اقناع شركات الإنتاج الأجنبية بتمويله، لكنه نجح في إقناع يوسف وهبي بانتاج العمل، بعد أن أخبره بأن ميزانيته لن تتجاوز 500 جنيه، واختار بهيجة حافظ لأول مرة أمام سراج منير وزكي رستم، وابتكر لأول مرة تصوير مشهد ملون واحد، تم تصويره بالابيض والأسود ثم أرسله لباريس ليلون باليد في معامل “باتيه”، والغريب أن هذا المشهد تكلف ما يوازي ربع ميزانية الفيلم، وهي جرأة تؤكد نبوغه المبكر، ويظهر الريف المصري لأول مرة علي شريط السينما، بعد الانتهاء من الفيلم عرض في سينما متروبول في 2-4-1932 جاءت النتيجة مبهرة ومذهلة للجميع خصوصا أولئك الذين رفضوا تمويل العمل، حتي أن د. محمد حسين هيكل صاحب القصة والذي كان يوقعها تحت اسم مستعار (فلاح مصري) قام بطبع الرواية مرة أخري واضعا اسمه عليها وحققت انتشاراً كبيراً جدا مستفيدا من نجاح الفيلم، وبعد 22 عاما يعيد تقديم الرواية مرة أخري في فيلم (ناطق) يحمل الاسم ذاته، وتقوم ببطولته راقية ابراهيم ويحيي شاهين وفريد شوقي، وهو أول فيلم مصري يعرض في مهرجان برلين الدولي عام 1953. شجع هذا النجاح يوسف وهبي لمعاودة تجربة الانتاج بفيلم يقوم ببطولته، ويختار مسرحية «اولاد الذوات» لتحويلها إلي فيلم سينمائي بمشاركة اعضاء الفرقة (فرقة رمسيس)، ولأن المعدات في ذلك الوقت كانت غير مجهزة بأجهزة الصوت سافر إلي فرنسا ليصور عدة مشاهد هناك، حتي المشاهد التي تم تصويرها بالقاهرة ادخل الصوت عليها بعد ذلك، وحينما عرض الفيلم في سينما رويال في 14-3-1932 لقي نجاحا كبيرا كأول فيلم مصري ناطق ويتردد اسم محمد كريم بقوة. سعي محمد عبد الوهاب للتعاون مع “الأستاذ”، فرغم شهرته الواسعة كأحد أهم مطربي عصره ارتأي أن السينما ستزيد من هذه الشهرة، ولم يكن علي الساحة غير محمد كريم ليساعده علي تحقيق أحلامه، ويثمر هذا التعاون عن 7 أفلام، خلال مسيرة اربعين عاما من الفن لم يقدم محمد كريم سوي عدد قليل من الأفلام (26 فيلما) منها 17 فيلما سينمائيا، استطاع محمد كريم أن يضع اللبنة الأولي للفيلم الغنائي صار عليها جميع مخرجي السينما، فرغم أن “ماريو فولبي” هو أول من أخرج فيلما غنائيا وهو: «أنشودة الفؤاد» بطولة المطربة نادرة عام 1932، فإن “كريم” كان أوسع خيالا وأرق حسا وأكثر شاعرية، عندما قدم لأول مرة اوبريتا غنائيا في فيلم «يوم سعيد» باقتطاعه مشهدا من مسرحية «مجنون ليلي» لاحمد شوقي، قام بغنائه محمد عبد الوهاب واسمهان, بينما مثله أحمد علام وفردوس حسن وعباس فارس. بعد هذه السيرة المليئة بالانجازات والنجاحات، تصبح مهمة الكلمات شاقة في السطور الأخيرة، فالرجل ليس في حاجة إلي أكثر من أن يكتب تاريخه بحيادية وصدق، حتي تتعرف الاجيال علي ما قدمه للسينما المصرية في بداياتها، وتدرك ان يديه البيضاء صنعت كثيرا من العلامات المضيئة وشكلت أفلامه محطات رئيسية اسهمت في تطور هذه الصناعة العملاقة. أشرف بيدس