علي طريقة فيلم "أنا لا أكذب ولكني أتجمل" للعبقري الراحل أحمد زكي. وكذلك قول الشاعر " هذا ما جناه أبي علي وما جنيتو علي أحد" يعاني كثير من أرباب الحرف والمهن الصغيرة نظرة دونية تظل تلاحقهم وذويهم لمجرد أنهم يمتهنون مهنا بسيطة ربما لا يعرف أصحابها معني الراحة ولا الجلوس علي المكاتب. لكنهم بالتأكيد يؤدون أعمالا حيوية ومهمة وبدونها قد يختل توازن المجتمع. لكن الثقافة السائدة التي تعلي المظاهر كثيرا ما تجني علي هؤلاء وتوصم أبناءهم بعار قد يلازمهم أبد الدهر... فكيف نغير نظرة المجتمع تجاه مهن شريفة مثل: عامل النظافة. الحانوتي. المكوجي. الصنايعي وغيرها من المهن التي لا يختلف أحد علي أهميتها وتأثيرها؟ هذا ما نجيب عنه في السطور التالية. في البداية يؤكد الدكتور أحمد خيري أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس. أن التصنيف بين البشر عرفته الإنسانية منذ تكونت القبائل. فهناك قبائل من الدرجة الأولي وأخري من الدرجة الخامسة والعاشرة أو القبائل التي ليس لها وزن اجتماعي علي الإطلاق فينظر لها باحتقار. ويمتد التصنيف أكثر في تاريخ العلاقة بين السيد والعبد حيث عرفت البشرية في بدايتها العبيد والسادة وأمتد هذا الأمر للمجتمع المدني الحديث في شكل تصنيف المهن المختلفة فمنها ما يستحق الاحترام ومنها ما لا يستحق. أضاف الدكتور خيري. أن هذه النظرة تنتشر في البلاد العربية وفي الخليج علي وجه التحديد حيث توجد قبائل أصحابها يتسمون بالدونية رغم أنه قد يكون بينهم علماء ومفكرون وأدباء. لكن وضع القبيلة نفسها داخل الدولة متدن. أما الوضع في مصر فهو أفضل حالا. لكن لا تزال هناك شوائب امتدت إلي المهن حيث ينظر إلي القاضي والضابط وبعض المهن السيادية التي فيها أوامر وأذي وخوف باحترام شديد بينما ينظر لبعض المهن البسيطة التي لا تتطلب مستويات تعليمية عالية باحتقار شديد كالحانوتي وعامل النظافة وأرباب الحرف البسيطة. شدد الدكتور خيري. علي أن هذه النظرة متخلفة تعكس سطحية الناظر لهؤلاء لأن الإسلام جاء لمجو هذه الفروق تماما فرسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "كلكم لآدم وآدم من تراب... لا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوي". لذا فإن قيمة الإنسان تتحدد بعمله أيا كان. فالإنسان الذي يعمل جدير بالاحترام أيا كانت طبيعة عمله حتي وإن كان ينقل مخلفات البهائم أو البشر وما إلي ذلك. لابد أن تكون هذه هي النظرة الحقيقية للإنسان المنتج. أما من يستحق النظرة الدونية حقا فهو ذلك الشخص الذي لا يعمل ويعيش عالة علي غيره. طالب الدكتور أحمد خيري. بضرورة إعادة النظر في كثير من الأمراض الاجتماعية ومن بينها النظرة الدونية لبعض الحرف ففي المجتمعات المتقدمة قد نجد نجارا متزوجا من أستاذة جامعية وهي تنظر له باحترام وتعتبره جديرا بها. تكريم الاسلام أوضح الدكتور عبد الغفار هلال. الأستاذ بجامعة الأزهر. أن العمل شرف يحمده الإسلام. فاليد العاملة يحبها الله ورسوله فقد قال سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الحبل فيأتي بحزمة من حطب علي ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه". أكد الدكتور هلال. أن من يجمع القمامة لينظف الشارع أو ليستفيد مما يجمعه عمله هذا لا يحط من قدره في شيء بل إن العمل يرفع صاحبه.. قال تعالي:" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا " "الكهف 107" ويقصد بالعمل في الآية الكريمة العمل مطلقا. فكل عمل إذا أدي بجهد وأمانة وإخلاص من أجل منفعة الناس هو عمل شريف ينبغي النظر له بتقدير واحترام. أضاف: جرت العادة علي أن يقسم بعض الناس الأعمال إلي شريف وغير شريف خصوصا في المجتمعات التي تكره الصناعة حيث ينظرون للحداد مثلا نظرة استخاف واستهزاء رغم ما يتحمله من خطورة التعرض للنار. لكن هذا الخطر محسوب في ميزان حسناته. كذلك الجزار الذي تغرق ملابسه في الدماء قد يكون أفضل عند الله من موظف يجلس علي مكتب لكنه لا يؤدي دوره علي أكمل وجه.لذا لابد من التفرقة بين نظرة الشريعة لأصحاب المهن البسيطة ونظرة الناس لهم فالدين يقدر كل صاحب عمل مفيد ونافع. أما نظرة المجتمع فهي التي بحاجة لإعادة نظر. أشار الدكتور عبد الغفار هلال. إلي أن مدارس الزراعة مثلا كان الهدف منها أن تخرج فلاحا قادرا علي أن يزرع الأرض بطريقة علمية. لكننا وجدنا الطالب بها يريد أن يرتدي البدلة والقميص ويجلس علي كرسي ولا ينتبه للحقل ولا للزراعة. وكذلك المدارس الصناعية التي من المفترض أن تخرج ميكانيكية وأصحاب حرف ينظر لها البعض علي أنها حقيرة. وهي في الواقع تمد المجتمع بأساسيات تساهم في تحضره ورخائه الاقتصادي. لذلك علينا أن نغير الفكرة الراسخة في أذهان الناس حول أن الوظائف المهمة هي الإدارية التي يجلس أصحابها علي مكاتب. فالعكس هو الصحيح.. نحن نريد دولة صناعية تشجع الحرف والصناعات الصغيرة كالغزل والنسيج وغيرها لأن الدول التي تقدمت تقدمت بالصناعة. واستشهد الدكتور هلال. بقصة المرأة التي كانت تكنس مسجد الرسول فلما ماتت سأل عنها فقالوا له ماتت فقال لهم: لم لم تخبروني؟ وسأل عن قبرها وذهب وصلي عليها وسألها: يا أم محجن هل ما أنت فيه أم كنس المسجد؟ فقالت: كنس المسجد لأن الله كافأها علي ما كانت تفعل. فتمنت أن تعود للدنيا لتخلص في عملها أكثر فتحصد الثواب الأعظم. قيمة العمل اوضح الدكتور عبدالرءوف الضبع رئيس قسم الاجتماع ووكيل كلية آداب سوهاج سابقا. أن لدينا تهتكا في ثقافة العمل. لأن المفترض أن ينظر للعامل علي أساس الدور الذي يؤديه ففي روما علي سبيل المثال يتولي الإيطاليون بأنفسهم نظافة بوابات العمارات الزجاجية حيث تتولي السيدات عملية تنظيف هذه الواجهات الساعة السادسة صباحا يوميا مرتديات البالطو الأبيض وكأنهن طبيبات. ويحظر علي أي شخص آخر غير إيطالي أن يقوم بهذه المهمة وهذا من فرط اهتمامهم بالنظافة وتقديرهم لقيمة العمل أما في مصر فلدينا نظرة متخلفة لا تتسق مع ديننا الذي يدعو لإتقان العمل أيا كان نوعه وتساءل الضبع: ماذا لو أضرب الحانوتية عن العمل؟ وكذلك عمال النظافة؟ شدد الدكتور الضبع. علي أن كل المهن مهمة. لكن المطلوب هو تغيير الثقافة التقليدية السائدة والانفتاح علي الثقافة الصناعية التي تعلي مبدأ أن العمل بمردوده. مهن ضرورية أوضحت الدكتورة سلوي شعراوي أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. أن المجتمع يدرك جيدا قيمة وأهمية أرباب المهن البسيطة كعامل النظافة والمكوجي والحانوتي وغيرها ويعترف بدورهم. ولا ينظر إليهم نظرة دونية لأن غياب مثل هذه الحرف سيؤدي بالطبع إلي مشكلات خطيرة. وكل فرد في المجتمع يؤدي دوره مهما كان صغيرا. وأضافت: مسألة الارتباط بأبناء العاملين بهذه الحرف فتتعلق أساسا بالثقافة السائدة في المجتمع. فبطبيعة الحال لن يتقدم ابن عامل نظافة لابنة وزير مثلا. بل سينتقي شريكة حياته من فئة مناسبة له. بل إن بعض الصنايعية يحصلون علي شهادات جامعية خصيصا من أجل إرضاء العروس وأهلها وهم مدركون جيدا أن الشهادات "ما بتأكلش عيش" لذا فهذه الأمور مرتبطة بطبيعة المجتمع وثقافته ولا تعني بأي حال من الأحوال التقليل من شأن أصحاب الحرف البسيطة.