جمعني الهاتف بصديق عزيز وزميل فاضل في الهيئة القضائية. يعتز بنشأته. ويفخر بوالده. الذي نجح في تربية أولاده تربية خلقية قويمة وعلمية ملحوظة. حدثني عن كيفية كفاحه. حتي ارتقي مكانة مأمولة. دعمتها ثقافته وقراءاته المتنوعة والمتعددة. قال أعلم أنك تميل دائماً إلي محبة كل من يرعي أهله. ويحمل فضلهم. ويذكر خيرهم. ولا يتركهم لحظة دون اهتمام ورعاية. قلت نعم هذا صحيح. وحبي لمن يحب أمه وأباه أكثر. فإنهما باب السعادة. والجنة تحت أقدامهما. ومن لم يكن فيه خير لأبويه. فلا خير فيه إلي يوم القيامة. وتملكتني عاطفة فياضة عند ذكر الوالدين. وقد نعيت أبي رحمه الله في ديوان كامل لم يطبع بعد عنوانه "عندما يبكي القمر". قلت في أول قصيدة رثاء له وأنا في الصف الثاني الثانوي. أبتاه إني قد فقدت صوابي والعمر قد أضحي بلون غراب استدرك قائلاً:- "فلان زميل الدراسة ارتكب واقعة خطيرة. كان يضع في ثلاجته طبقاً من المشمش ليأكله مثلجاً. فزاره والده في الشقة التي أقام فيها بعيداً عن أهله. تعففاً من إقامته في المنزل الذي أواه صغيراً. ورعاه يافعاً. وفجأة رأيت وسمعت صفعة علي كتف الوالد قرب عنقه كالها الابن لأبيه مصحوبة بالسب والنهر. جزاء إجرامياً لأبيه الذي أكل المشمش المثلج المعد ليلتهمه الابن العاق وحده دون شريك حتي ولو كان والده". كانت صرختي شديدة باكية مبكية لما سمعت. هل يمكن أن يحدث ذلك. وأخذت أردد لا إله إلا الله.. لا حول ولا قوة إلا بالله. وانهرتت باكياً بصوت سمعه كل من كان بجوار صديقي. وختمت ترديدي بكلمة معقول... معقول..؟؟!!. طلبت من زميلي الفاضل غلق الهاتف لأستجمع قواي وعقلي ومشاعري لما سمعت. وأخذت استعرض حياة ذلك الإنسان العاق السابقة. كما عرفتها طوال لقاءاتنا. كافح الأب المهدر كرامته كفاحاً مريراً. حتي استطاع هذا العاق أن يكمل تعليمه في المرحلة الاعدادية. والتحق بمدرسة المعلمين. ليتخرج فيها مدرساً بالمدارس الابتدائية كان في ذلك الحين هناك مدرسة لتخريج المعلمين والمعلمات بعد المرحلة الاعدادية ولم يستطع باقي الأولاد الخروج من مرحلة التعليم الأولي. زملاء الابن العاق استكملوا تعليمهم بالدخول إلي مرحلة الثانوي العام. منهم من أصبح طبيباً أو مهندساً أو ضابطاً أو مدرساً بالمدارس الاعدادية والثانوية. كان من بينهم واحد تأهل للالتحاق بكلية الطيران. تقابلا أثناء اجازته ليسأله عن مشواره الدراسي. ويكون رد الابن أنه يعمل مدرساً في المرحلة الابتدائية. فيبادر زميله الطالب بكلية الطيران بقوله "هتفضل عمرك كله تصلح كراسات فلفل وشرشر" كتاب القراءة في المرحلة الابتدائية حينئذ يضحك كل الزملاء الذين حضروا الواقعة... يعود صاحبنا إلي منزله ليثير معركة مع أبيه وأمه. ويلومهما علي فقرهما الذي جعله لا يقوي علي مواصلة تعليمه العالي. يذاكر ليحصل علي الثانوية العامة بعد ثلاث سنوات. ويلتحق بكلية الحقوق. ويشيع بين أقرانه وجيرانه أنه صاحب المستقبل المرموق. وما إن تخرج حتي مكنه تفوقه الدراسي. لالتحاقه بوظيفة مرموقة. وكان لايزال يؤدي الخدمة العسكرية. وما انتهت الحرب بنصر عظيم في أكتوبر 73. وينهي خدمته في القوات المسلحة. ويتسلم عمله مثيراً الأحاديث عن علمه ومعلوماته بصورة استفزت قرناءه وزملاءه في العمل. مترفعاً أحياناً عليهم بمعرفته ما لا يعرفه الآخرون. فيثير البحث عن كنهه ونشأته التي لا شأن ولا سبب له فيها. يضطر لأن يهجر المنزل الذي نشأ فيه. ويقارق أهله وأخوته الذين يعملون جميعاً في بيع السمك أمام حلقة السمك أو لدي تجار آخرين. ويفرض نفسه علي صديق قديم له. يعمل طبيباً ومن أسرة طيبة محبة للخير شاكرة الله علي ما آتاها من نعم كثيرة. وكان صديقه هذا يقيم في شقة بمفرده. ولم يكن متزوجاً بعد.. تنقطع صلته بأهله تماماً. لا يزوره أحد منهم. ولا يجعل أحداً منهم يزوره. وحين هم أحد أشقائه بزيارته. كاد يطرده من مكتبه. خشية أن يكتشف من معه أنه أخوه. بعد مدة انتقل إلي شقة ايجار حصل عليها بواسطة شخصية مهمة في المحافظة. وضع فيها سريراً وحيداً ينام عليه. وباقي الشقة خال تماماً. إلا من كرسي وحيد يجلس عليه أحياناً بالتبادل مع السرير. بدأ مشواره في البحث عن عروسة. حين سألته هل نجحت في الحصول عليها. نفي ذلك. وقرر أنه يطلب عروساً جميلة مستواها الجمالي لا يقل عن نسبة تسعة من عشرة. ولابد أن تكون ابنة أحد التجار الكبار حتي يضمن مساعدة أبيها لها علي الأقل شهرياً بمبلغ خمسة وأربعين جنيهاً. استفسرت عن سبب تحديد المساعدة بهذا المبلغ. أجاب أنه يقترب من راتبه كنا في سنة 1974 حتي تكون الأمور متساوية. والاستواء عنده في الناحية المالية وليس في الناحية العلمية. لأنه لم يشترط أي قسط من التعليم. إنما الأهم هو مستوي أسرتها المادي. طرق باب عشرات البيوت. ولم ينجح في العثور علي زوجة بمواصفاته. وكان الكثير من هذه البيوت لاترتاح إلا إلي طرده ورفضه.. حين ساقته قدماه إلي بيت أحد مديري العموم بوزارة من الوزارات. طلب من والد العروس. أن يتكفل الأخير بكافة متطلبات الزواج من تجهيز وشقة ومصاريف. متعللاً أنه يعمل بوظيفة مرموقة تعطيه راتباً شهرياً. يزيد عما يحصل عليه كمدير عام رغم أنه علي وشك بلوغه سن التقاعد. ولم يجد والد العروس إلا إنهاء المقابلة ورفضه حتي ولو كان وزنه ذهباً. من بين ما تقدم إليهم رجل ذو مكانة مرموقة ومن عائلة محترمة. يُحسن استقبال الناس والترحيب بهم. وظن صاحبنا أن مركزه الوظيفي. وأخلاق ذلك الإنسان الحسنة سوف تؤهله لمصاهرته. إلا أن الرجل كان حصيفاً وجريئاً وصريحاً. تحدث إليه قائلاً يا فلان كونك زميلاً هذا شيء جميل. وكوننا نتبادل الرأي والزيارة. ذلك شيء طبيعي. ولكن في مسألة المصاهرة. هناك حسابات أخري.. يكفي أنك خرجت من جلدك. وتنصلت من أهلك. وهربت من مستواهم. ولم تحاول أن ترفعهم إليك. بل تركتهم في دركهم دون أن تأخذ إليهم إلي ما أنت فيه... لا أقول لك أن تظل في مكانك معهم دون تغيير. ولكن التغيير يكون بهم ولهم. تساعد في تحمل والدك مشاق الحياة. وتدفع أخوتك إلي ما يمكن أن يصلح من شأنهم ووضعهم... وكانت تلك الكلمات لطمة قوية في وجهه. وحسناً فعل حين حاول أن يحسن من مستواه العلمي والأداء في مهنته. ويتابع كل جديد لعل ذلك ينسي بعض الناس ما يعلمون عنه.. لكن تظل واقعة لطم والده علي كتفه نقطة سوداء في حياته. لعل ما أصابه من مرض عضال. ظل يشكي منه ويتألم منه حتي مات تخفف عذابه عند ربه. ويغفر له ما اقترفه في حق ذلك الوالد المسكين. انتقام الله لنبيه