نزلت إلي القاهرة أول ثمانينات القرن الماضي لإتمام تعليمي الجامعي بالأزهر. تعلمت في الأزهر بعضا من فنون الدعوة وقليلاً أو قشورًا من فنون الإعلام باعتباره رافدا من روافد الدعوة حصلت علي قسط غير واف في فنون الصحافة. كنت في ذلك الوقت مولعا بالصحافة باعتبارها سماء المجد وشموخ المستقبل. هذا الولع كان يدفعني إلي الطواف حول دار التحرير القديمة فانتشي حينما يهفو عبق رحيق مطابعها إلي نفسي. ويبهرني مبناها القديم غير المتناسق حيث يوحي بغموض المهنة وأكمل طوافي في جولة تالية حول مبني أخبار اليوم القديم صاحب الشكل المعماري المميز. الرشيق في وقفته كانت غاية أملي أن أصعد فقط حتي أصل "لبهو" هذا الدار أو غيرها. تدفقت عبر وجداني آمال رحبة دفعتني لأبحث عمن يدفعني الدفعة الأولي للانطلاق والسير في بلاط الصحافة دعوت الله فلم يخيب الله دعائي امتدت إلي يد حنونة لإنسان مفعم بحب الخير تطوي نفسه كل معاني الإنسانية وروح الفضيلة تلقفني الأخ الأكبر الأستاذ محمد الزرقاني ومهد لي الطريق وأحاطني بنوع من التشجيع فشعرت بشبع بعد جوع وشفاء بعد سقم وارتواء بعد ظمأ. الأستاذ محمد الزرقاني رغم ما يربطني به من صلة قرابة ونسب ومصاهرة إلا أنني تمثلت فيه حنان الأخ الكبير ووفاء الصديق فهو لمن لا يعرفه حتي من بين زملائه من أسرة طيبة لا تنفك عن الاحترام التام تتسم هذه الأسرة بالوداعة والرقة والطيبة والسمو الأخلاقي فوالده الحاج وجيه رحمه الله كان يعتبرني أصغر أولاده وكنت اعتبره رغم فارق السن أطيب الأصدقاء نسعي بلهفة لمجلسه نسامره فيرد علينا بتجاربه كانت جلسته دافئة روحه مرحة. عف لا نسمع بكلمة نابية تخرج من فاه كان رحمه الله ريحانة تنتشي حينما تنساب إلي أنفك وكان نسمه عطرة سريعة مرت علينا بسرعة لافتة وتركتنا علي أمل من نسمة تليها كان الحاج وجيه الزرقاني من أمهر مهندسي الري إلا أن المهارة الإعلامية كانت تجري في دمه فراح يحرر الصحف المحلية للجهات الحكومية وقتها استعان بمحمد نجله الأكبر وكانت هذه أول انطلاقة لمحمد الزرقاني في حقل الثقافة والصحافة. تلقفتني اليد الحنونة بكل شغف ومازلت طالبا بالجامعة فحينما عمل مديرا لتحرير "شباب بلادي" أخذني معه وقتها كان أقصي ما أتمناه أن أري اسمي مكتوبا علي ورق صحيفة من الصحف ثم انتقل إلي مكتب جريدة المسلمون الدولية فانتقلت معه وتعلمت علي يديه إجادة بعض فنون المهنة كان له طريقة غريبة تدفع إلي الغيظ كنت أطالبه أن يوجهني يرشدني أن عملي ناقص.. تافه غير جاد. لكنه لم يفعل. ويوجهني بقوله: اقرأ ما كتبته. ثم أعد قراءته بعد النشر وقارن لتعرف مواطن الخلل وتتلافاه.. وكنت أفعل. كان يحمل تفاني وجدية المدرسة وحنان الأخ ووفاء الصديق والقلب الذي ينبض بالسعادة للاخرين.