كان أبي رحمه الله يتمني لو أن أصبح طبيباً. ولحقت بكلية الطب بالفعل. لكني كنت صغيراً طائشاً. أعيش في عالم من أوهامي. هجرت الطب كالنائم مغناطيسياً. وذهبت أتعلم الصحافة. وقد اعتقد خطأ. أن الصحافة هي الكتابة. أو أنها ستكون بوابتي إلي عالم الكتابة!. وكنت محظوظاً من البداية في شارع الصحافة. فقد تلقفني أساتذة عظام. جلال الدين الحمامصي ومصطفي وعلي أمين وموسي صبري وسعيد سنبل وإبراهيم سعده ووجيه أبوذكري. وأحببت كل هؤلاء وأحبوني. وتعلمت منهم أساسيات وأسرار مهنة صاحبة الجلالة. وجعلوني أؤمن بأن الصحافة رسالة نبيلة. وأنها ينبغي أن تكون مرآة الحق والحقيقة. لكني هذا كان كلاماً نظرياً جميلاً. لا علاقة له بالواقع الذي يعيشه الناس!.وفي بداية عملي بالصحافة. كان همي الأولي هو البحث عن الحقيقة. وتصوير الواقع دون زيادة أو نقصان. فوجدت أن الحقيقة أحياناً تكون أغرب من الخيال. أما ألا صعب فكان اكتشافي أن الناس لا يحبون الحقيقة ولا يريدونها. الناس يفضلون الأكاذيب. لأنها ترضيهم وتخدر مشاعرهم وعقولهم.وظللت سنين طويلة أكتب قصص الحوادث والجرائم والقضايا. واكتشفت أن في هذه الدنيا ظلم كثير. وحاولت دائماً أن أساعد المظلومين. وانحزت إلي الضعفاء والمتهورين. وقدمت لهم من نفسي ومن قلبي. بل وحتي من مالي القليل. كل ما أستطيع. في أحد الأيام كنت أزور سجن وادي النطرون. وتأثرت للغاية بالحالة الصعبة التي يعيشها بعض السجناء من الفقراء. وكنت قد حصلت في نفس اليوم علي مرتبي الذي لم يكن يزيد علي ثلاثين جنيهاً. فوزعت المرتب كله عليهم. وعندما عرف مصطفي أمين بما فعلته غضب مني. واتهمني بأنني بسيط. لكنه أعطاني من جيبه ثلاثين جنيهاً أخري!. وخلال عملي الصحفي لم أسرق ولم أحصل علي رشوة. لكني أيضاً لم أدخر مبلغاً من المال. يسترني في اليوم الأسود. وخرجت من شارع الصحافة يا مولاي كما خلقتني. لا خميرة ولا قطعة أرض ولا شاليه علي البحر. ومازلت أعيش في نفس شقتي القديمة في حي مصر القديمة. وإيجارها 4 جنيهات!. وفي نفس الوقت رأيت بعيني كيف أن بعض من كانوا زملاء لي في الصحافة. تحولوا إلي مليونيرات. وتغيرت حياتهم تماماً. بعد أن صنعوا من الصحافة وسيلة للكسب المشروع وغير المشروع. وأصبح بعضهم لصوصاً يحملون »كارنيه« نقابة الصحفيين!. وبعد الثورة مباشرة. فوجئت بعدد من تلاميذي وزملائي. وكلهم قدمت لهم كل أنواع المساعدات. وبعضهم علمته الصحافة وكيف يمسك بالقلم. فوجئت بهم ينتظمون في مؤامرة لإبعادي عن مجلة »أخبار الحوادث« التي هي أصلاً فكرتي. والتي ساهمت في تأسيسها ونجاحها. حتي وصل توزيعها إلي ما يقارب المليون نسخة!. ولفترة لم أستوعب كل هذا الجحود والنكران. واللؤم والخداع والشر. وربما أكون سامحت هؤلاء الصغار في السن والنفوس فيما بعد. لكن أسوأ ما فعلوه بي. أنهم جعلوني أتوقف عن مساعدة أحد وأنظر بعين الشك لكل من يطلب مساعدتي.وخرجت من بيتي في »أخبار الحوادث« كسير القلب مجروح النفس. ومازالت الدماء تسيل من طعنات الغدر. التي وجهها في ظهري. كل من ساعدتهم وقدمت لهم العطاء المخلص. وتغيرت توصيف وظيفتي في أوراق ومستندات »أخبار اليوم« من رئيس تحرير إلي كاتب صحفي.. للأسف!.