يتردد في الآونة الاخيرة الحديث عن الخطاب الديني وتطوره.. المقصود في كلام الناس هذا أن الخطاب الديني هو الذي كون مرجعه قول الله وقول الرسول صلي الله عليه وسلم.. الواقع الاسلامي كما أراده الله وأنزله علي نبيه أن كل خطاب إلي الناس يتعين أن يكون مصدره القرآن أو السنة. بمعني عدم الخروج عن قول الحق والخير. الذي يدعو إلي محاسن الاخلاق وجمال التصرفات. ورفعة الخلق.. وكل كلام لا يتجاوز هذه المعاني هو صادر عن قول الله وقول رسوله ومصدره التعاليم الربانية التي أنزلها الله إلي البشر ليهديهم إلي طريق الصواب. وطريق الصواب في نظر الاسلام وكافة الديانات السماوية هو تعارف البشر بعضهم بعضاً. وسعيهم نحو النور. لينتشر الخير وتعم المنفعة. ويحيا الناس في سلام ووئام. قال تعالي "ومن أحسن قولاً ممن دعي إلي الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين" سورة فصلت الآية .33 الملاحظ أن القول الحسن ان تدعو إلي الله. والدعوة إلي الله هي نشر الفضيلة. والسعي نحو إسعاد البشرية بعمل الخير والاستقامة في كل أمور دنيانا. ونلاحظ أيضاً أن الآية ربطت ذلك بالعمل الصالح. فليس من المقبول ان تدعو إلي الله ثم تسئ المعاملة. أو تتقاعس عن فعل الخير. فتلك صفة المنافقين. وهم من وصفهم المولي سبحانه وتعالي بأنهم في الدرك الاسفل من النار. ولم يقل الكافرين.. إذ لابد أن يكون القول الحسن مترجم بالعمل الصالح. وإلا يرد علي القائل قوله مادامت تلك الاقوال مخالفة لافعاله. ومتضاربة معها. وينطبق عليها قول القائل:- يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب فهم يقولون بأفواههم ما ليس من قلوبهم ولدوام الخطاب الديني المنشود واستقامته. لابد من شرح الاسلام كما أراده الله سبحانه وتعالي المتسم بالوسطية. وبلا غلو أو تشدد. فإن الاسلام يحب الوسطية في كل شئ.. الوسطية في السلوك الانساني. فلا يشتط الانسان في علاقته بالغير. ولا يهمل إلي حد التسيب.. أجمل ذلك القرآن الكريم في قوله تعالي "ولا تجعل يدك مغلولة إلي عنقك ولا تبسطها كل البسط "سورة الاسراء الآية 29. فلا إفراط ولا تفريط أو إمساك بغير معروف.. الافراط تطرف وإهمال في الالتزام بقواعد ضرورية لإدارة الحياة. والامساك منع عن عمل الخير وإهمال له. كما أن الاسراف في الطعام والشراب يحدث تخمة تغيب العقل وتصنع الكسل. كما أن الافراط في العمل والتعب الزائد يؤدي إلي هلاك الجسم وإضعافه. ويكون صاحبه كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقي. والقول المأثور أن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع. ولما كانت العبادة في الاسلام من أفضل الاعمال لارتباطها بعمل الخير وبناء الحياة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقد حث الاسلام علي الوسطية في أدائها. ولا ستمرار الامتثال إلي حسن العبادة والخضوع لمالك الملك. لابد أن تؤدي بلا تشدد أو تهاون. فالاسلام يرفض منهج المفرطين الذين يتهاونون في أمور دينهم. ويعرضون عنها. فيستبيحون المحرمات. ويهملون الواجبات. ويؤثرون الشهوات. ويأخذون أمور الدين باستهتار بالاهمال والتقصير مع أنهم يهتمون بأمور الدنيا كل الاهتمام. كما يرفض الاسلام الاسراف حتي في تقرب العبد إلي مولاه بعيداً عن الوسطية التي هي منهج الاسلام. "الرسالة المحمدية للدكتور مصطفي بهجت صفحة 48 وما بعدها". ويحمل القرآن الكريم إلينا آيات عديدة تحث علي التوسط في العبادة. قال تعالي "طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقي إلا تذكرة لمن يخشي". وقال "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" وقال "يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفاً. وقال "ما جعل عليكم في الدين من حرج". وقال الرسول المعلم يوجه المسلمين إلي طريق الوسطية ويحثهم عليها في هتاف إنساني جميل "إن الدين يسر. ولن يشاد أحد إلا غلبه". وزاد في تحذيره "إياكم والغلو في الدين. فإنما أهلك من كان قبلكم بالغلو في الدين". مؤكداً قول المولي سبحانه وتعالي "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل" المائدة الآية .77 ونأتي إلي قمة الخطاب الديني وهي التوجيه والارشاد وبمعني آخر "الوعظ". حث الرسول صلي الله عليه وسلم أن يكون الامام في الصلاة. والخطيب في خطبة الجمعة أو في العيدين رؤوفاً بالناس حتي لايمل أحد منهم. وتصبح صلاة الجماعة لهم هماً ثقيلاً. وسماع الخطبة عذاباً أليماً. كان صلي الله عليه وسلم لا يطيل في صلاته حين يؤم الناس. وما أطال في خطبته أكثر من خمس دقائق. والكتب التي جمعت خطبه تشهد بذلك. وما أطال في صلاة إلا إذا كان منفرداً أثناء الليل. ومع ذلك كان يقول "أصوم و أفطر وأقوم الليل وأنام وأتزوج النساء وهذه سنتي ومن رغب عن سنتي فليس مني". قال ذلك حين سمع أن بعض الصحابة حرم علي نفسه الاقتراب من النساء. وامتنع عن النوم لقيامه. ويصوم الدهر كله ما رأينا إطالة في وعظ وارشاد أتت بنتيجة تفوق نتيجة القليل المفيد الذي لا ينسي بعضه بعضاً. فعندما يطيل الخطيب في خطبته فربما يسأم الناس ويمل وتصدأ قلوبهم. وينسون في آخر الكلام أوله. ومن ثم لاتجدي الاطالة. وكان ابن مسعود يذكر الناس كل خميس فطلب منه أحد أصحابه أن يذكرهم كل يوم. فأجابه الصحابي الجليل تلميذ محمد صلي الله عليه وسلم أكره أن أملكم وأنا أفعل كما يفعل سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم مخافة أن يصيبنا السأم. هذه ملامح الخطاب الديني المنشود الذي نود أن نطرحه للناس. متسماً بالوسطية في العبادة وفي أمور الحياة. وفي الوعظ والارشاد. وفي أداء العبادات. بما لا يخرج عن جوهر الاسلام وروحه. ودون تطرف في الاتباع والسلوك. أو انحراف عن المنهج الرباني القويم الذي به تنصلح حياة الناس في طريق الاستنارة والرقي.