لو تأملنا مصادر الثقافة في العصر الحاضر لوجدناها ترجع كلها إلي الأزهر الشريف وتنبع من معينه خرج الأزهر من مدرسته: الصحفي البارع والخطيب الساحر. والسياسي الداهية. والمصلح الخطير. ودرج علي ربوعه قادة مصر في نهضتها وثورتها. وبناة مجدها. وحماة تراثها. فكل نابه قد اغترف من فضله. وارتوي من بحره. واغتذي بثقافته. فالأزهر موئل العظمة في شتي النواحي بطريق مباشر أو غير مباشر. ولو أن الأمة تلفتت لفتة سريعة إلي الوراء. لآمنت بأن الأزهر بعثها بعد رقدة. وأيقظها أثر غفوة. وأنه أخذ بيدها إلي قمة العظمة في كل ميدان. فقد كان العامل الأهم في نضجها السياسي. وفي تفتحها العلمي. وفي نهوضها الأدبي. وفي ثوبها الفكري. اعتمد محمد علي مؤسس مصر الحديثة وصاحب نهضتها علي الأزهريين في إنشاء المدارس وتشغيلها لنشر العلوم والفنون والآداب. وتهييء للبلاد ما تتطلبه من الثقافة الغربية والعلوم الحديثة. كي يتخرج فيها شاب ناهض يعمل علي تحقيق مجدها ورفعتها. فلم يجد محمد علي باشا نواة صالحة تقوم عليها هذه المدارس سوي شباب الأزهر. فقد وجد فيهم دعامة نهضته الجديدة. فحملوا لواءها. وعضدوا اللغة العربية التي كانت التركية مزاحمة لها إلي ذلك الحين. وقامت عليهم الجمهرة العظمي من المدارس التي أسسها في صدر النهضة كمدارس الطب والألسن والمهندسخانة وغيرها. وإذا كان محمد علي اعتمد علي الأزهريين في إنشاء المدارس. فهو قد اعتمد عليهم أيضا في إرسال البعوث للخارج. فكان الأزهر هو البيئة الصالحة التي وجد فيها محمد علي وأبناؤه عونا لهم علي نقل ثقافة الغرب وآدابه وعلومه. فقد أرسل المبعوثون الأزهريون إلي بلاد الغرب فأدوا رسالتهم. وعادوا إلي بلادهم أبلغ ما يكونون علما. وأحفل ثقافة وأعظم انتفاعا وأشد تأهلاً. ووفدوا إلي بلادهم فاضطلعوا بالترجمة والتأليف فيهأوا لمصر آدابا جديدة وعلوما حديثة. وغير خاف ما كان لرفاعة بك الطهطاوي وتلامذته من جهود وآثار. هذبت الأفكار. ونمت القرائح. وأيقظت الهمم. لمسايرة الغربيين في نهضتهم التي كانت مصر بمعزل عنها وعن أسبابها. وكان من أثر هؤلاء أنهم حرروا الرأي والفكر واحسنوا التوجيه. ولقحوا الأفكار والعقول بلقاح جديد. وأفادوا من الغرب طرائق تفكيره وخصائص إنتاجه. وقامت علي أكتاف الأزهريين حركة الترجمة والتأليف التي عن طريقها تم نقل الثقافة الغربية المتمثلة في آداب الافرنج في مختلف مظاهرها. وكتب الطب والطبيعيات والرياضيات وعلوم الاجتماع والاقتصاد والحقوق. ولقد صاحبت حركة الترجمة والتأليف حركة اخري هي حركة التصحيح والتحرير. فقد احتاجت الحكومة في صدر هذه النهضة إلي محررين يتقنون اللغة العربية. فلم تجد سوي الأزهريين. فعهدت إلي جمهرة منهم بهذا العمل. فحرروا الكتب المؤلفة أو المترجمة في الطب والرياضة وغيرها من مختلف العلوم والفنون. وكثيرا ما كان يقوم بهذا العمل رفاعة بك الطهطاوي وبعض تلامذته بمدرسة الألسن. ومن أشهر هؤلاء المحررين من علماء الأزهر في صدر النهضة: الشيخ محمد عمر التونسي "ت:1274ه 1857م" الشيخ محمد قطة العدوي "ت:1280ه 1874م" والشيخ إبراهيم الدسوقي "ت:1300ه 1883م" وغيرهم. كما اعتمدت المدارس والبعوث وحركة الترجمة والتأليف علي الأزهريين. اعتمدت عليهم كذلك الصحافة قبل غيرهم في نشأتها ونهضتها. ووجدت فيهم الأعوان الأقوياء. والأعضاء النافعين والأقلام البليغة والأفكار الناهضة. فقد أمدوا الصحف ببحوث العلم وروائع الفكر وطرائف الأدب. واتخذوا منها منبرا اعتلاه الأدباء والشعراء وكبار المفكرين وقادة المشرعين والمصلحين. فروجوا سوق الأدب. دعوا إلي الإصلاح الاجتماعي في مختلف ألوانه وشتي أساليبه. فالصحافة ابتدأت بالأزهريين وأن مجدها انتهي إليهم. وحسب الأزهريين أنهم بنهوضهم بها احيوا اللغة العربية وآدابها. في وقت كان فيه سادة الشعب يتحدثون باللغة الأجنبية ويفرض المحتلون لغتهم في الديوان والمدرسة. ومن أشهر الصحف التي قامت علي أكتاف الأزهريين وأقلامهم. فإن للأزهريين فضل كبير علي الصحافة في الحاضر. فلا تزال كثير من الصحف والمجلات العربية في مصر تقوم علي سواعد الأزهريين وتزخر بأفكارهم. وتشرق بآدابهم